السؤال: مشكلتي أنني فتاة من عائلة كبيرة جدًّا، وأعمل في أحد البنوك الكبيرة، ووظيفتي ولله الحمد جيدة، إلا أنني لا أحب القراءة ولا الكتابة، وأشجع الأطفال والكبار على عدم الدراسة والتعلم، علما بأنني أعرف أربع لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية واليابانية، أعرفها تماما، مشكلتي أنني لا أحفظ إلا أربع سور من القرآن، أحفظ المسد والإخلاص والفلق والناس، ودائمًا أرددها؛ لأني لا أحب التعلم ولا القراءة والكتابة.
وسؤالي هو: ماذا أفعل في عملي وعندي من يقرأ عني ويكتب لي، أنا فقط أوقع، إلا الأشياء الصغيرة جدا أقرؤها؟
جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
سبحان الله! إذا كانت أختنا السائلة لا تحب القراءة ولا الكتابة كيف تعلمت أربع لغات؟! وهي تقول: إنها تعرفها تماما، وتجيدها إجادة تامة، كيف هذا؟ ولنفترض أنها كما تقول لا تحب القراءة ولا الكتابة، فلماذا تشجع الآخرين على عدم القراءة والكتابة؟! نحن أمة اقرأ، أول آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1-5). نحن نعيب على أمة اقرأ أنها لا تقرأ.
اليهودي موشي ديان قال يوما حينما صرح لبعض الصحف الأمريكية بأشياء، فقالوا له: فضحتنا، المفروض أن هذه أشياء لا تقال حتى لا يعلم بها العرب، فقال لهم: اطمئنوا فإن العرب لا يقرؤون.
كأن أمتنا تريد أن تصدق نبوءة موشي ديان!
لا بد أن نقرأ، كان الناس قديمًا يقرؤون، أحدهم كان يقرأ وهو على فراش الموت، وإذا لم يستطع أن يقرأ طلب من غيره أن يقرأ له، ممكن الإنسان يقرأ بواسطة غيره، كثير من الناس لا يقرأ، ولكن يأتي بمن يقرأ له.
فالأخت هذه إذا كانت لا تقرأ فممكن أن تأتي بمن يقرأ لها، إذا كانت لا تقرأ في المصحف فلتستمع لقراءة القرآن، والآن هناك مصاحف مرتلة ومجودة على الأشرطة والأقراص المدمجة وفي الإنترنت، وهناك إذاعات كاملة للقرآن.
وأنصحها وهي التي تجيد أربع لغات أن تحفظ شيئا من القرآن ولو جزء عم (الجزء الثلاثين)، ألا توجد غير هذه السور الأربع التي تحفظينها؟ لماذا تبقى الأخت على هذه السور الأربع وكأنه لم ينزل من القرآن غيرها.
وتستطيع الأخت أن تحفظ آيات من القرآن، أن تحفظ خواتيم سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 285-286).
تستطيع أن تحفظ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255).
تستطيع أن تحفظ أواخر سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ *هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ *هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر:22-24).
وعند الأخت المقدرة على ذلك، فهي تتقن أربع لغات، فتستطيع أن تتعلم آيات من القرآن الكريم، والكسل ليس عذرًا لها، وإن كانت صلاتها صحيحة، لكن لماذا تسجن نفسها هذا السجن في أربع سور قصار فقط، وتظل ترددها، وعندها القدرة أن تقرأ الآيات الأخرى؟!
ثم لماذا تشجع الصغار والكبار على أن لا يتعلموا؟ هي تعلمت وأصبحت في وظيفة جيدة في أحد البنوك الكبيرة، فلتدع الآخرين ليصلوا إلى ما وصلت إليه، ثم هل ضرها التعلُّم أم أفادها؟! أنا أرى أنه أفادها، فأنا أرى لغتها في هذه الرسالة لغة جيدة، وأنها تستطيع أن تتفاهم مع الناس بأسلوب حسن، فعليها أن تشجع الآخرينن على القراءة والكتابة.
النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وهذه معجزة له، كما قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت:48)، كما قال البوصيري في بردته: كفاك بالعلم في الأميِّ معجزة ** في الجاهلية والتأديب في اليتم
فهي معجزة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلمن ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي الأمي أول من حارب الأمية، حتى إنه في غزوة بدر حينما أتيحت له الفرصة ووجد بعض الأسرى الذين يحسنون القراءة والكتابة، جعل فداءهم أن يعلم كل واحد منهم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة، فكان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أول من حارب الأمية.
فلا بد أن نقرأ ونثقف أنفسنا، ولا بد أن نمحو الأمية، وليس محو الأمية أن نعرف مبادئ القراءة والكتابة، بل أن نقرأ ونثقف أنفسنا ثقافة دينية، وثقافة اجتماعية وثقافة سياسية، فنحن نشكو هذه الأمية، أمية الثقافة وهي -للأسف- أمية شائعة عندنا، فهذه الأخت تعلمت وعرفت أربع لغات، ووصلت إلى مرتبة جيدة في الوظيفة، ولكنها -للأسف- لا تشجع غيرها أن يتعلم، هذا عيب كبير.
كان المسلمون قديما يطلبون العلم من المهد إلى اللحد، ويقولون: لا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظن أنه عَلِم فقد جهل. إذا وصل الشخص لحالة في العلم ظن معها أنه أصبح عالمًا كبيرًا وترك طلب العلم فقد أصبح جاهلًا، يصبح جاهلًا بقدر العلم؛ لأن العلم بحر لا شاطئ له، لا نهاية له، الله تعالى يقول لرسوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه:114).
ويخاطب الله الناس فيقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء:85)، تعلَّم من العلم ما شئت أن تتعلم، وخُض في بحار العلم ما شئت أن تخوض، لن تصل إلا إلى القليل، لا بد أن يطلب الإنسان العلم طوال حياته، وقال بعض الحكماء: يحسن بالإنسان التعلم ما دام يقبح منه الجهل، وكما يقبح منه الجهل ما دام حيًّا كذلك يحسن به التعلم ما دام حيًّا. وبعضهم قال: العلم من الشيخ أوجب؛ لأن خطأه أقبح. الصغير إذا أخطأ قد يُغفر خطؤه، أما الكبير إذا أخطأ فخطؤه شنيع، فتعلمه يكون أهم وأوجب من غيره.
فأرجو من الأخت أن تتخلى عن هذه الفكرة، وأن تشجع الصغار والكبار على التعلم والدراسة، وألا يكتفوا بما وصلوا إليه من الدراسة والعلم، فوصية حكماء الأمة: كن طالبا للعلم ما حييت، اطلب العلم من المهد إلى اللحد.