لكل شيء آفة، وآفة الأمم أن تعيش تحت ظلال قهر واستبداد...

تصور كثيرون أن من مصائب العصر، ظهور مرض " الإيدز " الذى يُفقد الجسم البشرى مناعته فيسقط صريع الموت ، لكن الحقيقة تقول إن البشرية عرفت ما هو أخطر من الإيدز منذ آلاف السنين، إنه الاستبداد الذى يُفقد الأمة المناعة المجتمعية فتسقط صريعة التخلف وتقع فريسة الجهالة وتستسلم لتوحش المرض.. تتقاذفها الأمم وتنهب ثرواتها، ويعيش أهلها "تحسبهم أيقاظا وهم رقود " ...

    هي حكمة المولى ـ سبحانه وتعالى ـ أن يفطر الإنسان على نزعتين متضادتين، هما معا سبيل نهوض واستقامة، لكن اعوجاج منهج التعامل يحولهما إلى مرض خطير ووبال عظيم ..

   فقد أودع سبحانه في فئات من البشر نزعة إلى القيادة والترؤس، ومهارة في تدبير الأمور.. كل أمة بحاجة إليهم، تدير بها الأعمال وتقود بها المصالح والأحوال... منحهم الله حسن بصيرة ورشد رأي وحكمة في القول والفعل ...

    وأودع في فئات من البشر نزوعا إلى أن يقودها الغير وتريح رأسها من هم المبادأة ومواجهة المصاعب والمشكلات ، تفتقد الجسارة والقدرة على الصمود والمواجهة.. كل أمة بحاجة أيضا إلى مثل هؤلاء، ينفذون الخطط والسياسات ويُسيّرون الأعمال والمهام ..

    والله عز وجل إذ خلق كل شئ بحساب ( إنا كل شئ خلقناه بقدر ) القمر/ 49 ، وقدر لكل أمر ميزانا ( وأنبتنا فيها من كل شئ موزون ) الحجر/ 19، وما أوجد شيئا عبثا ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) المؤمنون/ 15، يرصد لمن يحيد عن الميزان، ويخطئ الحساب، ويخلط الأوراق عذابا دنيويا، دون أن ينتظر إلى أن يغادر الدنيا فيلقى عذاب الآخرة، والعذاب الدنيوى عندما يشتط البعض فيوغلوا فى التسلط، ويمضوا بعيدا على طريق "العُجب" بالذات، فيكون قهرا واستبدادا .

    ويكون مصاب الأمة أفدح عندما يكون القاهر المستبد هو من يتولى أمرها ويتحدث باسمها، فيكون هو العقل الأوحد والمفكر الأعظم، يرى ما لا يراه الناس، ويُقدّر أفضل مما يستطيع غيره أن يقدروا الأمور، وفي النهاية يكون شعاره... لا أُريكم إلا ما أرى !

   والله الذى خلق هاتين النزعتين، خلق أمرا آخر لا يستقيم الأول بدونه، ألا وهو تلك الحقيقة التى تؤكد أن: كما أن لكل إنسان بصمة إصبع إبهام، فله أيضا بصمة عقل، تتبدى فيما يطرحه من أفكار وما يصل إليه من آراء، وما دام الأمر هكذا فمن حقي أن أرى ما لا تراه، ومن حقك أن تختلف معي، ويكون هذا الشعار الشيطاني ( ما أوريكم إلا ما أرى ) منافيا للفطرة البشرية وشذوذا لا بد من التصدى له، وخطرا ووبالا لابد من التكاتف لدرء مفاسده، وإلا أهلك الحرث والنسل، وباء الجميع، حتى هو.. القائل بهذا.. بالخيبة فى نهاية المطاف، حيث لن يرى الجميع إلا دخان الحريق الذى يلتهم كل شئ، ورماد الجهد الإنسانى على مر السنين !!

   تأمل جيدا فى هذه الآيات الكريمات فى قرآن الله المجيد وهو يعدد لآل قريش ما أنعم به عليهم، لا وحدهم، وإنما كل البشر، وما ذكر قريش إلا "مثالا"، بحيث لابد من تطبيق القاعدة العظيمة: خصوص اللفظ .. وعموم الدلالة: قد تكون الواقعة شخصا أو جماعة بعينها، لكن المضمون.. لكن الحكم، يصدق على كل ما شابه المثال موضع الحديث .

أما النعمتان فهما: أطعمهم من جوع.. وآمنهم من خوف ..

    تستطيع أن تعدد الكثير من الاحتياجات والمتطلبات، لكن من بينها جميعا، تقف هاتان النعمتان: فالأولى هى الخاصة بالطعام، فهل يستطيع إنسان يعيش بغيره ؟

أما الثانية التى تكافئها مقامة وتقديرا وخطورة ، أن يأمن الناس من الخوف.. خوف الاعتقال.. خوف السجن بسبب عدم الرضوخ.. خوف التشريد بسبب المغايرة فى الرأي، فماذا إذا عاشت أمة بأكملها تفتح عينيها فتجد سيارات أمن مركزى تحيط بالمكان؟ وماذا إذا عاش صفوة المتعلمين، ونخبة الرأي ، والعصي الغليظة فوق رءوسهم ؟

        لقد قيل فى عبارة منسوبة للإمام علي ـ رضي الله عنه ـ إن الفقر إذا دخل بلدا قال له الكفر خذنى معك، والفقر هنا ليس فقر جسد وفقر معدة ولكنه فقر عام، يضم كذلك فقر العقل وفقر الفكر، ومن هنا تأتى أبشع جريمة يرتكبها الاستبداد والقهر، حيث يمكن أن يتساءل المرء المقهور بينه وبين نفسه : كيف تسكت يا رب على هؤلاء الذين عكسوا ما تريده.. أنت الإله، للناس, فلم يؤامنوننا من خوف ؟

ومن هنا كان هذا النفر الأول من المسلمين يفهمون رسالة الخالق، فيعلنها رسول الله صريحة مدوية: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ! أرأيت ؟ أفضل الجهاد ! تأمل هذا كثيرا ، وقل لى بربك: هل يمكن أن يكون المسلم مسلما عندما يرضخ للقهر ويرضى بالاستبداد، ويدعي أن هذا " قدر " عليه، و"مكتوب" ؟!

    وهذا هو الفاروق عمر يعنف صحابيا كبيرا مثل عمرو بن العاص لأنه انتهك كرامة مواطن مصرى فقير وأمر بأن يقتص هذا المواطن البسيط من ابن الحاكم فيضربه كما ضربه " اضرب ابن الأكرمين " ، وصاح صيحته المدوية: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟

استقرئ آيات القرآن الكريم وابحث عن كلمة العدل وما رادفها مثل " القسط " لتجد أن العدل قيمة مركزية للحياة الشخصية وحجر أساس للبنية المجتمعية .

والعدل ليس مجرد توزيع للثروة بين جمهور الناس وفقا لجهدهم وكفاءتهم فحسب ولا هو مجرد توفير فرص عمل لمن يقدر عليه ...

    لكنه أيضا عدل في توفير الأمن لجماهير الناس، لا لمن يحكمون ويستبدون فقط .

   العدل هو ألا يستأثر بالرأي قوم دوم قوم ...

    إن العدل ألا نختص قوما بزرع الخوف في قلوبهم، وزرع الطمأنينة في غيرهم ...

   إن المستبد فى استبداده إنما يقرر بنفسه أنه غير جدير بأن يحكم من يستبد بهم، فهم إذا كانوا قد اختاروه حاكما بالفعل، فهذا يعني أنهم يقدرونه ويحترمونه ويرونه أهلا لحكمهم وقيادتهم، وهو عندما يلغي عقول من انتخبوه ويفرض ما يراه هو وحده ومن معه، فهذا يعني أنه يحتقر شعبه ولا يقدره، ويتعامل معهم باعتبارهم قوما من الأغنام، وما هو إلا راعي غنم !!

والمستبد في استبداده يعلن عن قصور فكره، عندما يتصور أن من يستبد بهم ويقهرهم ناقصو عقل، ويحتاجون إلى سنين طويلة حتى ينضجوا ويستحقوا ممارسة الحرية بلا خوف، فالإنسان الفرد يمكن كثيرا أن يخطئ، لكن مجموع الأمة، إذا تداولت الرأى بينها فى أمن وحرية لابد أن تصل إلى ما هو صواب وراشد ..

    والمستبد عندما يحجر على الرأى المخالف، ويقمع الفكر المغاير، متصورا أنه هو وحده الذى يحسن التفكير، وهو وحده الذى يقدر على ما يقدر عليه الآخرون، يقع في خطأ كبير، خطأ الجهل بحقيقة نفسه وتقدير ذاته؛ لأن هذا إنما يعكس صورة واضحة من المرض النفسى.. إذ من المستحيل أن يستقيم تفكير يرى الخطأ لدى الجميع، والصواب لديه وحده ، حتى لو ضممنا معه حراسه وحُجابه والمنتفعون به ..مئات ، بينما الآخر هذا يكون ملايين من الناس، منهم المفكرون وكبار المتعلمين والمثقفين، وخبراء العمل .

   والمستبد يحرص في انتقائه لأعوانه أن يكونوا من هذا الصنف الذى يرى ما يراه، ويحب ما يحب، ويكره ما يكره ، حتى لو كذبا ونفاقا، يتبننون فلسفة تقوم على المثل القائل: "إذا دخلت بلدا ورأيت أهلها يتعبدون عجلا ، " حش " وارم له" ...

    ومن هنا فإن تكاثرهم حوله لا يعني بالضرورة " تعددا " في الرأى وتنوعا في وجهات النظر، وإنما يصبح التشاور والتحادث هنا مماثلا لما يكون بالنسبة لأكل الفول في مصر ، فهو يطبخ " مدمسا "، وطعمية " و فول " حراتى " يؤكل خضرا من غير طهى، ويطبخ " بصارة "، كما يمكن أن يسوي " فول نابت ".. وهكذا تتعدد الأشكال وتتنوع الصور ، لكن الجوهر واحد !

    وبمرور الأيام وطول فترة البقاء يتكاثر الحُجاب، ويزيد المستشارون، فكأن كل واحد منهم " جدران عازل " يحول بين المستبد وبين الناس، فلا يصل صوتهم إليه، فإذا ما كان هناك تنظيم يسمح بأن يرسل الناس رسائل إليه، فإنها تمر بسواتر عدة، ومتاريس متنوعة، وجُدر عازلة، فتتم التنقية والترشيح والتطهير من كل ما يمكن أن يسبب للمستبد إزعاجا ، فيزيد المستبد في عزلته، ويصبح كمن سجن نفسه داخل قاعة خالية تماما من أى شئ ، يتحدث فلا يسمع إلا صوته وقد ارتد إليه من بعيد فيتوهم أنه يسمع تأييدا، ويلمس آثارا لما يقول مؤازرة .

أو هو كمن يعيش في قاعة غطت جدرانها بالمرايا الضخمة الصافية، إن أدار وجهه يمينا لا يرى إلا نفسه، وإن أدارها يسارا فسوف يرى نفسه، لكن طوال الفترة، وتكرار المنظر يوهمه بأن هذا الذى يراه في المرآة ليس صورته هو، بل صور آخرين، من شدة حبهم له وولائهم ومؤازرتهم – كما يتصور - يخيل إليه أنهم أصبحوا على صورته، فيزداد رضا بالحال القائم، ويستمر في تمسكه بموقعه، ولا يتصور إمكان أن يجئ يوم لا يستمتع فيه بهذا الذى يجري من حوله من خير خاص، وهو يرفل في نعيم مقيم !