شعبان عبد الرحمن*
يا لها من تجليات القدر وحكمته ! ، فالمشهد الذي سطّر فيه القائد يحيى السنوار ( 19 أكتوبر 1962م – أكتوبر 2024م ) الفصل الأخير من حياته شهيدا، يكرر مشهد ارتقاء الشهيد عز الدين القسام ( 1883م – 1935م) بصحبة أول نُواة قساميّة مجاهدة، فقد ظل القسام يومها يقاتل الجيش الصهيوني مقبلا غير مدبر في "غابة يعبد" التي كانت موجودة في مدينة جنين ومعه إخوانه حتى آخر رصاصة وآخر نفس، وهو عين ما فعله السنوار الذي ظل يقاتل الصهاينة حتى آخر ما في حَوزته من سلاح، بل إنه حاول القتال بالعصا ـ وهي آخر ما تبقى في يده ـ إعذاراً إلى الله .
ومن حكمة الله أن السنوار لم يترك لقادة الكيان المحتل فرصة لدبج القصص والأساطير حول خطط مزعومة وبطولة زائفة كان الجميعُ يستعد لنسجها حول العثور عليه ومقتله وتصنيع بطولة زائفة للجيش الذي لا يقهر في هذا الصدد، والحقائق التي أكدها الجيشُ الصهيوني وفق صحيفة "هآرتس" عن مصادرَ رفيعةٍ في الجيش أن السنوار"كان يتحرك فوق الأرض ولا يختبئُ في الأنفاق طوال الوقت" وزاد الإعلام الصهيوني على ذلك أن العثور على السنوار جاء مصادفة وعبر تمشيط روتيني، قاطعا الطريق على أي فضل أو عنتريات ينسبها نتنياهو أو جنرالاتُ الجيش لأنفسهم .
وقد تأملتُ آخرَ ما تركه لنا السنوارُ، إذ تم العثور بحوزته بعد استشهاده في تل السلطان بمدينة رفح جنوبي قطاع غزة فكان– وفق ما نشره الجيشُ الصهيونيُ على القناة الـ12 – "مطوية أذكار نبوية يومية" وكُتيب "أذكار نافعة" ومِسْبَحَةٍ وساعة يد ....إلخ." وبالطبع القرآن كاملا محفوظا في صدره، وتلك أمانة السنوار التي تركها وصيةً وعبرةً وعظةً للأمة، وهي تحمل أكثر من رسالة مهمة لكل من ألقى السمعَ وهو شهيد، نعم رسالةٌ لكل من يسعى لإعداد جيل النصر وتحرير فلسطين، رسالة ترسم أولى خطوات الجهاد متمثلة في حسن الصلة بالله أولا، حفظا لكتابه وتدبرا لآياته وعملا بها والحرص على الصلوات وختمها ومداومة ذكر الله: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد- 28 ، وعن عبد الله بن بُسْر، -رضي الله عنه- أنَّ رجلاً قالَ: يا رسول الله إنَّ شرائع الإِسلام قد كثرتْ عليّ فأخبرني بشيء أتشبثُ به، فقال: ( لا يزالُ لسانُك رطباً من ذكر اللَّهِ ) صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكرٌ باللسان وتصديقٌ بالجنان وعملٌ بالأركان وفي رواية وعملٌ بالجوارح، وهذا ما أجمع عليه أهل السنة، فقد قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ "وكان الإجماعُ من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم ".
ذلك هو الأساس المتين والراسخ الذي تُربّي عليه حماسُ والحركةُ الإسلامية رجالَها وشبابها، بل ونسائها وأطفالها ويجب أن تتربى عليه الأمة، وهو التشبث بحبل الله المتين أولا وقبل كل شيء، وتثبيت دعائم الإيمان في القلوب جنبا إلي جنب مع العُدة والاستعداد والعتاد، ولذلك كانت المفاجأة المُدوية للجيش الصهيوني أنه لم يعثر مع السنوار على أسرى، وإنما عُثر معه على عدة النصر، ليس ذلك فحسب وإنما ترك السنوارُ مع ما ترك مسيرةَ جهاد وكفاح وتضحيات، أربع مؤبدات حكمت بها المحاكم الصهيونية عليه وصاحبها سجن وتنكيل، فما وَهَنَ وما استكانَ، وإنما ازداد صلابةً وثباتاً وإعداداً وإقبالاً على الله وسعياً للشهادة.
وهكذا يتسابق قادةُ حماس وقادة القسام للشهادة في سبيل الله على امتداد تسعين عاما، من عزالدين القسام الذي تَحِلُّ ذكرى استشهاده التسعين في 19نوفمبر القادم إلى السنوار، ذرية بعضها من بعض، وكما قال أبو عبيدة: "لو كانت الاغتيالات نصراً، لانتهت المقاومة منذ اغتيال عز الدين القسام".
ولو أن هناك من يحرص على حراسة ذاكرة الأمة بانتصاراتها المجيدة وأبطالها الذين حفروا بدمائهم تاريخاً ناصعاً، لأصبح يوم التاسع عشر من نوفمبر كل عام عيداً قومياً يجتمع حوله العرب، ليكون من الأيام النادرة التي تجمعهم بعد أن فرقتهم الأهواءُ، لكن يبدو أنني أحلم حلماً بعيداً، فالرجل نفسه لو كان حياً لكان على رأس المطلوبين من أنظمة عربية، إرضاءً لليهود، ولتم تصنيفُه على رأس قائمة الإرهاب؛ لأنه هو الذي غرس بذرة الجهاد على أرض فلسطين ضد المشروع الاستعماري الصهيوني، ومن يومها ترعرعتْ البذرةُ، حتى صارت اليوم شجرةً باسقة تؤتي أُكلَها كل حين بإذن ربها، وصارت مستعصيةً على الاقتلاع.
الرجل كان عالماً ورعاً من علماء سورية «من مواليد قرية جبلة» وداعية من دُعاة الإسلام الذين تهتز لهم القلوب قبل المنابر، كان عالماً عاملاً، وكان من قادة الثورة على الاستعمار الفرنسي، وعندما طارده الاستعمارُ الفرنسي في سورية غادرها في مطلع عشرينيات القرن الماضي مع شقيقه إلى مدينة «حيفا» في فلسطين، وهناك اتخذ من المسجد الكبير مقراً يُلقي فيه دروسَه اليومية التي تركزت على مشروعية الجهاد في سبيل تخليص الأوطان من الاحتلال، وإعلام المسلمين بأن الجهادَ العمليَّ والقتالَ الصادقَ، هو خير منطق يُجابه الأعداء الذين يهاجمون أرضنا ويدنسون مقدساتنا، وهكذا انطلق مشروعه لتحرير فلسطين من المسجد .
ومن خلال هذه الدروس انتقى تلامذتُه من الشباب والرجال، الذين كانوا يلتفون حوله ويتفاعلون مع دروسه وكلماته، وكوَّن أول كتيبة للتحرير عرفتها أرض فلسطين، وانطلق في أوائل عام 1935م من المثلث العربي «جنين ـ نابلس ـ طولكرم» ومن هذا المثلث اشتعلت أول شرارة للجهاد، ومنه سرتْ روحُ الجهاد إلى أنحاء فلسطين، لكن قوات الاحتلال الإنجليزي ومعها الصهاينة سارعوا إلى إطفاء جَذوة تلك الشرارة، فحاصروا الشيخ ومعه إخوانه المجاهدين في غابة «يعبد» بمنطقة جنين، ودارت معركة فاصلة استُشهد فيها الشيخُ في 25 نوفمبر 1935م.
وذهب القسامُ إلى ربه شهيداً بعد عام إلا قليلاً من بدء الجهاد، وظن الصهاينةُ أنهم تمكنوا من وأدِ شرارة الجهاد في مهدها، لكن قطرات الدماء التي تفجرت من جسده الطاهر روّت أرض «جنين» وسرتْ من تحت الأرض لتنبت شجرة الجهاد الصلبة في كل فلسطين وتحولت شرارتُها إلى نيران تحرق العدوَ كل يوم.
لتولد من جديد عام 1987م بنفس الاسم «كتائب الشهيد عزالدين القسام» التي عدلت الميزان، ميزان القوة، وميزان الرعب مع عدوٍ لا تجدي معه إلا القوةُ، ولن تتوقف مسيرتُها حتى تحرير كامل فلسطين.
---------------
* مدير تحرير الشعب المصرية والمجتمع الكويتية – سابقا