د. توفيق زبادي - أستاذ التفسير وعلوم القرآن

 

يُربي الإسلامُ أتباعَه على ألا تبقى ذرة من الطاقة المُدَخَرَة إلا وينفقها المؤمن الحق في طريق إحقاق الحق، وإبطال الباطل؛ ابتغاء مرضاة الله؛ لأن هذا هو طريق النصر الكامل الحاسم؛ فمن بذل الطاقة كاملة؛ تحقق له النصر كاملًا حاسمًا؛ ذلك كي لا يكون النصر رخيصًا؛ فتكون الدعوات هزلًا.

لقد مضى عام على " معركة طوفان الأقصى"، هذه المعركة التي كانت فرقانًا بين التقديرات البشرية، والتدبيرات الربانية، أراد مخططوها تحقيق أهداف على مستوى الأرض والعرض، وأرادها الله فرقانًا بين معاني الروحانية والمادية، وفرقانًا بين القيم الإنسانية والقيم المادية، وفرقانًا بين من هو نصير للحق، ومن هو نصير للصهيوأمريكية، فرقانًا بين البخيل الشحيح والكريم السخي، فرقانًا بين مدعي الولاء ومحقق الولاء، فرقانًا بين مدعي الحضارة ومحقق القيم الحضارية، فرقانًا بين ثقافة العقيدة والحياة والممات على العقيدة.

لقد توارى أثناء هذه المعركة الفَذَّة دُعَاة الإلحاد، والمثلِّية، وعَلت معاني الألوهية، وتسامت معاني العفة كما عاشها أهل غزة العِزَّة.

وظهر دعاة حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل عرايا من مبادئهم أمام العالم أجمع تجاه قضية فلسطين؛ لأن هذه الحقوق وضعت من أجل أصحاب البشرة البيضاء فقط.

وأظهرت هذه المعركة نفاق الدول الكبرى وانحيازها الكامل للإبادة الجماعية للمسلمين.

أخي الكريم:

«لقد آمنا إيمانًا لا جدال فيه ولا شك معه، واعتقدنا عقيدة أثبت من الرواسي وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ الدنيا المُعَذَبة، وترشد الإنسانية الحائرة، وتهدي الناس سواء السبيل، وهي لذلك تستحق أن يضحي في سبيل إعلانها، و التبشير بها، وحمل الناس عليها بالأرواح والأموال وكل رخيص وغال، هذه الفكرة هي الإسلام الحنيف الذي لا عوج فيه، ولا شر معه، ولا ضلال لمن اتبعه» ([1]).

أخي الكريم:

فلنجدد العهد ونبذل قصارى الجهد.

قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}[التوبة:79].

سبب النزول: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍt   قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ عَلَى ظُهُورِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِي. وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا. فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} الْآيَةَ([2]).

والجهد- بضم الجيم- الطاقة.

وَالْجهَاد من الْجُهد وَهُوَ الطَّاقَة؛ فَإِن الضَّم أقوي من الْفَتْح، وَكلما كَانَت الْحُرُوف أَو الحركات أقوي؛ كَانَ الْمَعْنى أقوي؛ فالجُهد نِهَايَة الطَّاقَة وَالْقُدْرَة.

أي الذين لا مال لهم إلا جُهْدَهم، فبذلوا أقصى ما في طاقتهم ووسعهم في رضا ر بهم.

وهذا أصل عظيم في طريق الدعوة إلى الله التزمه السابقون.

 وبمثل هؤلاء انتشرت الدعوة، وقوي ساعدها، وكثر أتباعها وحاملوها.

روى الطبري بسنده عن ابن أبي عقيل، عن أبيه قال: بت أجر الجرير على ظهري، على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر أتقرب به إلى رسول ﷺ فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته، فقال: "انثره في الصدقة". قال: فسخر القوم، وقالوا: لقد كان الله غنيًا عن صدقة هذا المسكين؛ فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} ([3]).

تأمل أخي الكريم في قصة هذا الذي بات يعمل؛ ليحصل على صاعين أجرًا له، جاء بأحدهما لرسول الله - ﷺ-؛ ليقدم الصدقة عن طواعية نفس، ورضا قلب، واطمئنان ضمير، ورغبة في المساهمة في الجهاد على قدر طاقته، وعلى غاية جهده؛ تلبية لدواعي الإيمان، والتضحية والمشاركة.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جُهْدُ الْمُقِلِّ...»([4]).

قوله: (جُهْدُ الْمُقِلِّ): أي: سعته وطاقته، و(المُقِلُّ): الفقيرُ؛ يعني: ما أعطاه الفقيرُ مع احتياجه إلى ما أعطاه.

إذا لم تكن فيما سبق من هؤلاء؛ فشمِّر عن ساعد الجد، وجدد العهد في تقوية إخوانك المجاهدين ونصرتهم، واخلفهم في أهليهم؛ تنل ثواب الغازيين.

من شعائر المنافقين:  أنهم يجرحون صاحب الكثير؛ لأنه يبذل كثيرًا، ويحتقرون صاحب القليل؛ لأنه يبذل القليل؛ فلا يسلم من تجريحهم، وعيبهم أحد من الخيرين؛ ذلك وهم قاعدون، متخلفون، منقبضو الأيدي شحيحو الأنفس، لا ينفقون إلا رياء، ولا يدركون من بواعث النفوس إلا مثل هذا الباعث الصغير الحقير... وأنت تراهم، وتقول هؤلاء الذي قصدهم الله في كتابه.

«اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ»

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

[1] مجموعة الرسائل، للبنا: 121.

[2] صحيح البخاري برقم (1415) وصحيح مسلم برقم (1018) .

[3] تفسير الطبري (14/388) .

[4] سنن أبي داود، بَابُ الرَّجُلِ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ،( 1677). قال الألباني: لألباني] : صحيح.