عبد القادر الإدريسي

لا يكفي أن نقيم الإسلام في قلوبنا وفي واقعنا المحدود، بل لا بد من إفراغ الجهد لإقامة الإسلام في الواقع المعاش.. واقع الناس الشامل اللامحدود، تلك هي الحقيقة الأولى في قضية الدعوة الإسلامية على مختلف العصور، وهي مسؤولية جميع الدعاة إلى الله اليوم وغدا، لا مفر منها ولا مناص، هي قدرنا المحتوم، وقضية مصير بالنسبة للإسلاميين جميعا.

ولكن السبيل إلى الدعوة محفوف بالمخاطر، طريق صعب وطويل وشاق، ورحلة متعبة مجهدة ثقيلة على النفس الأمارة بالسوء، ولكن مع ذلك لا ملجأ منها إلا إليها، وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

حتمي وضروري جدا، أن يكون العمل الإسلامي ثقيلا لا يتحمله إلا أولو العزائم والنوايا الحسنة والإيمان الحق والصبر الجميل، وبقدر ما تكبر الشقة بين الإسلام والناس، بقدر ما يزداد العمل الإسلامي ثقلا ووعورة ومشقة.

وطبيعة الدعوة الإسلامية تقتضي -ابتداءـ الاجتماع على كلمة سواء، والالتقاء على صعيد الإيمان بأحقية هذا الدين في القيادة، والارتباط الوثيق بالقضية، ارتباطا يتجسم أولا في الحب في الله والإخلاص في العمل لدينه والوفاء لتعاليم ومبادئ الإسلام، ويتجسم ثانيا في التجاوب والانسجام والتناسق والتنسيق بين الجهود وإلا تبعثر الجهد المبذول، وذهب هباء منثورا.

لنتصور دعوة، ولتكن دعوة الإسلام، يضطلع بها أفراد متفرقون، يجهل بعضهم بعضا تختلف وسائلهم، وتتضارب أساليبهم، وتتفاوت حظوظ نجاحهم، على اعتبار أن ثمة نجاحا محتملا، لنتصور هذه الدعوة المباركة تقوم عليها عناصر هذه صفاتها، هل تفلح في شق طريق لها وسط هذا الخضم الضخم الهائل من الدعوات والمذاهب والمعتقدات؟ وما لنا نذهب بعيدا، وأمامنا واقع الدعوة الإسلامية، وهو صورة مجسمة لهذا الاتجاه الشاذ في أسلوب الدعوة إلى الله. فهل هناك خطة عمل موحدة يسير على هديها الدعاة المسلمون في مشارق العالم الإسلامي ومغارب؟ وبالتأكيد لا يمكن الاطمئنان إلى نجاح جهود المخلصين وتحقيق الأمل العريض وهو إقامة المجتمع الإسلامي، إن استمرت الدعوة في اتجاهها المشتت هذا.

إن هناك بعضا من الكتاب الإسلاميين «يتلهى» بشن الحملات الكلامية والكتابية على إخوانه في الدين والدعوة.

نقرأ في المجلات الإسلامية وحتى الصحف اليومية السيارة مقالات بأقلام كتاب لهم نصيب في حقل الدعوة الإسلامية يهاجمون فيها، بطريقة أو بأخرى، كتابا آخرين لا يقلون عنهم جهادا وإخلاصا لهذا الدين، بل وهناك كتب تطبع خصيصا لمهاجمة هذا الكاتب المسلم أو ذاك الداعية أو المفكر… من يهاجم هؤلاء؟! أناس في الغالب يضطلعون بمهمة الدعوة والتبليغ، في هذا الميدان أو ذاك المجال، فهل بهذا الأسلوب الشاذ، وبهذا الجهد المهدور، والطاقة المبعثرة يخدم الإسلام؟!

إن تنسيق الجهود في حقل الدعوة الإسلامية من مسائل عصرنا الراهن. ولكن من يضطلع بمهمة التنسيق هذه على جسامتها وضخامتها؟!

والدعوة الإسلامية موزعة بين العمل الفردي والجماعي وكلاهما يسيران سيرا بطيئا متعثرا متراخيا، ليس من شأنه أن يصمد في وجه التحدي العقائدي الخطير الذي تواجهه أمة الإسلام.

والعمل الفردي، يتمثل في عناصر جد متفرقة، متباعدة، وغير متناسقة، ولا متعاونة، بينما نجد العمل الجماعي، والمتمثل في منظمات وهيئات وجمعيات ترفع شعارات إسلامية وتسير وفق برامج وتخطيطات متناقضة متضاربة تهدف لإعلاء كلمة الله، وتسلك إلى ذلك سبلا شتى تتفرع وتتشعب على نحو يزري بالدعوة ويسيء إليها.

المنظمات الإسلامية، على قلتها وضعفها وعجزها أحيانا تقف من قضايا العصر مواقف متباينة، وتدخل في تحديد هذه المواقف عوامل كثيرة منها المجاملة والمحاباة ومراعاة هذا النظام أو ذاك، والتملق إلى هذا الحاكم أو ذاك، وغيرها من العوامل المثبطة التي تسببت كثيرا في ضرب بعض الحركات الإسلامية في الصميم، وتفتيتها، وتمزيقها، وتشتيتها.

لقد لعبت بعض هذه الاعتبارات والعوامل دورا عكسيا، في مراحل سابقة فقد كان التملق ومراعاة الظروف والمجاملة ضدا على الفكرة الإسلامية. وتأكد من بعد، أن المواجهة السافرة، والخروج من التقوقع والانعزال إلى دنيا الناس، كان أقرب إلى الحكمة.

تأكد هذا بحكم التجربة في أكثر من موقع، ولكن أي شكل من أشكال العمل الإسلامي ينفع ويفلح اليوم؟!

ابتداء، استبعد كثيرا مما يفترضه بعض العاملين في الحقل الإسلامي، وإني أعتقد أن المواجهة المكشوفة لتحديات العصر هي السبيل الأقوم للدعوة إلى الفكر الإسلامي.

العمل الفردي لا يجدي نفعا أو يجدي، ولكن في نطاق ضيق ومحدود وبمستوى ضعيف وهزيل، والعمل الجماعي، لا يعني «الحزب» على غرار ما كان جاريا به العمل في مواقع عديدة، إن هذا الأسلوب ليس إسلاميا. لقد واجه محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجاهلية في عصره «على الطبيعة» والدعوة إلى الإسلام يجب أن تنطلق من منطلق مكشوف، فلسنا نريد خراب العالم، وإنما نحن دعاة خير وإصلاح وهداية فلم التستر إذن؟ ولم إخفاء الوجه؟!

أليس الحق أحق أن يقال، وهل من سبيل لقول الحق إلا مواجهة الناس به؟ في حياتهم المكشوفة العمل الجماعي؟ إذن، يجب أن ينهج نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، ومن أحق بالاتباع من الرسول عليه الصلاة والسلام.

إن البحث في أساليب الدعوة الإسلامية في فجرها كفيل بإيقافنا على أنسب وأقوم طرق الدعوة اليوم؛ لأن ثمة ارتباطا أو بالأصح تشابها بين ظروفنا الراهنة وعهد الرسول- عليه الصلاة والسلام- والتركيز على تحرير العقيدة من الشوائب ومؤثرات الجاهلية مجال خصب للدعوة.

فإلى قلوب الناس يا جند الله.. إلى قلوبهم، طهروها من الشرك والوثنية الحديثة، وإلى عقولهم.. قوموا اعوجاج فكرها، وإلى نفوسهم.. بثوها الطمأنينة وبرد اليقين وحرارة الإيمان وقوة المعتقد.

بالعمل الجماعي، بالاجتماع على كلمة سواء، بالتكافل والتكاتل والحب في الله والإخلاص في العمل لدينه والوفاء لتعاليم ومبادئ الإسلام بهذه الأسباب كلها نواجه الأمة الضالة… الأمة الفاسقة… الأمة الكافرة أو المنحرفة التنظيم عندي- وهذا رأيي الخاص قد أخطئ وقد أصيب- هو نوع من الاتفاق الضمني على العمل للإسلام، هو التواصي بالعمل الإسلامي، هو العهد على الدعوة إلى الله، بعيدا عن المزالق والمأزق، بعيدا عن الشبهات، فالمسلم لا يحمل إلا إسلامه، فلم إذن يعرض نفسه لما يعطل عمله ويسد باب الدعوة في وجهه فتضيع الأمة لافتقادها إلى من يريها وجه الحق(1).

____________________________________________________

(1) تم نشر هذا المقال في مجلة المجتمع العدد (110)، 14 جمادى الآخرة 1392هـ/ 25 يوليو 1972م.