الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..

فإنه مما لا ريبَ فيه أن ذكرى عظيم من عظماء العالم على امتداد تاريخه لم تحظَ بما حَظِيَت به ذكرى ميلاد النبي- صلى الله عليه سلم- من ثراءٍ وعناية وتأمل ودروس، وما تزال الذكرى العطرة في عطائها الدفَّاق تُمد الوجود الإنساني- على تباين مواقفه من صحابها عليه الصلاة والسلام- بمعانٍ هو في مسيس الحاجة إليها، وبجوانب من التميز الرفيع جديرة بالتأسي والاقتداء.

وتظل حاجة الدعاة إلى الله تعالى والسائرين على درب رسولهم الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- إلى ذلك أعظم من غيرهم، فهو عندهم القائد القدوة، والمثل الأعلى، والمعلم الأسمى، والرسول الأكرم، الذي لا يدخل أحدٌ الجنةَ إلا بطاعته واقتفاء أثره.

ومن جملة خواطر متزاحمة أتصيَّد لإخواني بعضًا من تلك المعاني الجديرة بالوقوف عندها ككل نواحي حياته عليه الصلاة والسلام:

أولاً: شمول القدوة

فلم يكن رسولنا- صلوات الله عليه- مجرد إنسان عبقري في شأن من شئون حياته، وجانب من جوانب شخصيته الثرية بالعطاء، بل كان رسولاً حاطتْه عنايةُ ربه، وربَّاه على عينه، وتِلكم- كما يذهب الأستاذ العقاد رحمه الله- هي إبراز الفوارق بين عبقرية إنسان ونبوة نبي.

 

ففي كل لحظة من لحظات حياة المسلم الصادق يستطيع أن يتلمَّس قبسًا من مواقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التي تمتد لتشمل حالات البشر جميعها، حين ينتصر أو يتوقف زحفه، حين يشتد على أعداء الله ويلين على أوليائه، حين يجاهد وحين يدعو، وحين يربي الأنصار والأصحاب، وحين يخلو بربه ويتعبَّد إلى مولاه، حين يحاسب نفسَه، ويخالط زوجَه، ويعلم أولادَه ويصل رحمَه، وحين يفقد بنيه، وفي حال صحته ومرضه، وغناه وفقره.. في جميع أحواله التي يمكن أن يمرَّ بها إنسانٌ يحتاج إلى المثال المتجرد الوضيء الذي يعيش الواقع فتظل وضاءته ألْقًا يهدي السائرين.

ثانيًا: وضوح الرؤية

وذلك ملمحٌ لا تكاد تخطئه عينُ الناظر في سيرة الحبيب- صلى الله عليه وسلم- فكانت خطواتُه في طريق دعوته وجهادِه مرسومةً بدقة بارعة، تجمع ذكاءَ العقل، ونقاءَ النفس، وسدادَ الوحي.. فتراه في مكةَ ثلاثةَ عشر عامًا يصبر على الأذى، ويؤكد على الثبات على المبدأ والعقيدة، ويربِّي النفوس المؤمنةَ على دوام الاتصال بالسماء، واليقينِ بنصر الله القادم، رغم شدة الضر وظلمة الليل ووحشة الطريق.

 

لم يَرُدَّ عدوانًا بمثله، ولا أذًى بما يكافئه، ولم يعطِ سمعَه لإغراءات الجاهلين بالحق الذين يمنُّونه بالغِنى الفاحش، أو الملك العريض، أو الشهوة الفاتنة، فقال: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه"، وكان يرى أصحابه يعانون ما لا يطيقه البشر من التعذيب والقهر، فلا يزيد على قوله: "صبرًا آل ياسر فإن موعدَكم الجنة".

ويودع في أسماع مَن جاء يستعجل النصر قوله: "والله ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكب من عدن إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون"، ورفض في أخريات حياته بمكة، وقبيل هجرته المباركة إلى المدينة أن يَحيد عن ذلك المنهج القويم قيدَ أنملة، فقال للمبايعين له في العقبة الثانية- الذين أغضبهم استهانة المبطلين بنور الحق وأصحابه فأبَدَوا استعدادهم أن يميلوا على أهل منى من المشركين بأسيافهم غدًا-: "لم نؤمر بقتال بعد".

وحين هاجر إلى المدينة وبدأ جهادُه المبارك وضَعَ خطتَه الواثقةَ باستنزاف قُوى الأعداء أولاً، فكانت بدر وأُحد والخندق، وفيها واجَهَ كلَّ تحالف الشرِّ المحيط بدولة الإسلام، وبعدما فشل كيدُهم قال في يقين صادق: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا"، وبدأ غزوهم سلمًا في الحديبية، وحربًا في فتح مكة والطائف.

والدعاة اليوم أحوج ما يكونون إلى فهم طبيعة المرحلة التي تجتازها الدعوة، وأن يقدروا الأمر حقَّ قدره، فلا يستعجلوا الثمرةَ، ولا يستبطئوا النصرَ، ولا يقعدوا عن فرصةٍ أمكنتهم لإعزاز دين الله ونصره، لا نصر ذواتهم.. ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِيْنَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَّالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ﴾ (القصص: 83).

ثالثًا: تواصل التربية

وذلك نهجٌ أصيلٌ في سيرته- صلوات الله وسلامه عليه- وكان عمادها ذلك التواصل الحميم مع أصحابه، وتلك المؤاخاة الصادقة بين أتباعه، وذلك اللجوء الدائم إلى ربه، والانصياع المطلَق إلى شرعه، ولم تكن دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة إلا واحدةً من محطات الطريق، ثم كان مسجد النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في المدينة، ثم كان انفساحُ مجالات العمل والتدريب والتنظيم في دولته، فتربَّت القلوب والضمائر على دوام الصلة بالله، والارتكان إليه وحده، وتربَّت العقول على فهم الشريعة ومعرفة الواقع ودراسة المتاح من الأمر، والمبادرة إلى إعطاء الرأي، والمشاركة في العمل، وإعمال الفكر في الحياة العامة على اتساع مداها.

وإن نجاح تلك التربية ليتمثل أعظم ما يتمثل أمرين:

أولهما: حرص القيادة المؤمنة على تزكية الأصحاب؛ حتى لا تعلو قامتُها بين قامات أقزام صغار، ولا شك أن الناظر إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- يجده واسطةَ العقد بين رجال كأبي بكر وعمر وخالد وأبي عبيدة وابن مسعود وغيرهم كثيرون، سيرى تجربةً فريدةً في تاريخ البشرية.

وثانيهما: استهداف التربية وإفراز نماذج مبهرة في شتى مجالات النبوغ الإنساني، علمًا وفقهًا، وعسكريًّا وجهادًا، وإدارةً وقيادةً، في إطار من الربانية الخالصة.

تلكم بعض جوانب من حياته- صلوات الله عليه- جديرةٌ بالتأمل والدروس والاتباع والاقتداء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.