وائل قنديل
تقترب أحد عشر شهراً من الاكتمال على بدءِ الجريمة الإسرائيلية الأمريكية في غزّة، ولا يزال العرب يُواصلون مضغ الأوهام ذاتها وبصقها في وجوهِ الشعوب، فيما يحافظ الصهيوني على روايته الوحيدة للصراع ببراعةٍ شديدةٍ في توزيع الأدوار بين مكوّناته التي تبدو متناقضة، بيد أنّها في حقيقتها متناغمة تمامًا.
في المفاوضاتِ التي تستضيفها القاهرة، وتضم فرق العمل المكلفة من الرئيس الأميركي، ثمّة حديث عن أنّ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، هو العقبة الوحيدة كونه يتمسّك بموضع قواته في محور فيلادلفيا، المصري الفلسطيني، على عكس موقف قيادات الاحتلال العسكرية، وقادة وفوده الأمنية إلى المفاوضات، وهذه فرضيةٌ ليس هنالك من يؤكّد صحتها، ما يجعل الاستغراق في التلذّذ بمصمصة الحواديت عن انشطار مكوّنات النخبة الحاكمة للاحتلال، والهوّة بين المستوى السياسي، ممثلًا بنتنياهو، والمستوى العسكري ممثلًا بالوزير يوآف غالانت، نوعاً من خداع الجمهور العربي، وتبريراً ساذجاً لاستمرار عملية التفاوض من أجل التفاوض.
في ذلك يأتي تصريح المتحدّث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، أمس، الذي أكّد فيه أنّ من يتّخذ القرار بشأن محور فيلادلفيا هو المستوى السياسي، وهنا يظهر التوافق الإسرائيلي الكامل على أنّ القرار عند نتنياهو، من دون أن يكون للتسريبات والتصريحات المنسوبة للجنرالات تأثير في مآلاتِ عملية التفاوض، إذ ثمّة إقرار بأنّه مهما تباينت وجهات النظر، فإنّ ما يحسم الأمر بالنهاية هو ما يراه رئيس الحكومة، بما يجعل المسألة برمتها توزيعًا للأدوار بين أطياف المجتمع الصهيوني المُجمعة على ثوابت ليست محلّ خلاف، وعلى رأسها القضاء على المقاومة الفلسطينية نهائيًّا، وفرض الهيمنة الإدارية والعسكرية الإسرائيلية على قطاع غزّة، واستعادة الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية بكلِّ الوسائل من دون التزام بالانسحاب من غزّة.
تتجاوز عملية توزيع الأدوار الصهيونية ثنائية العسكري والسياسي لتمتدّ أفقيًّا فتشمل اليمين الديني الصهيوني واليسار العلماني الصهيوني، وتمتدّ إلى عمق المجتمع، عائلات الأسرى المتظاهرين ضدَّ نتنياهو وخصومهم من جمهور بن غفير وسموتريتش ونتنياهو، إذ ثمّة إجماع صهيوني على تدمير بنيّة المجتمع الفلسطيني، بالإبادة والتطهير العرقي والإبعاد. وفي مقابل ذلك، تجد توسّعاً عربيًاً، سياسيًاً وإعلاميًاً، في ترويج بضاعة الانشطار الذاتي الصهيوني.
أحد عشر شهراً من الاستهلاك العربي للأوهام المصنّعة في تل أبيب وواشنطن، وفي مقدمتها وَهْم اتخاذ المفاوضات سبيلًا لوقف العدوان فلم تؤد إلى شيء سوى اكتساب العدو مساحات جديدة في خرائط الجغرافيا والسياسة والرواية، إذ بات يحتل أراضي لم يكن له موضع قدم فيها من قبل، على سبيل المثال محور فيلادلفيا ومعبر رفح المصريين الفلسطينيين، ومحور نتساريم الذي اقتطعه من لحم غزّة، فضلًا عن ميناء أميركي عائم بمياه المتوسّط لعب دورًا في إسناد العدوان.
في السياسة والرواية، اكتسب الصهيوني موقفًا رسميًّا عربيًّا لا يتوقّف لحظة عن إعلان وقوفه على مسافةٍ واحدة من طرفي المعركة، وسيطًا مُحايداً بين الفلسطيني المقاوم والصهيوني المعتدي، كما لا يتوقف عن تأكيد الالتزام بما تراه الإدارة الأميركية وما يطرحه جو بايدن، راعي الإبادة الجماعية قبل أن يكون راعياً لدراما الوساطة الأميركية متعدّدة الحلقات والأجزاء، التي لم تحقّق شيئًا سوى تدفق الوفود الأمنية الإسرائيلية على القاهرة والدوحة، لتمضية الوقت في التفاوض الذي يُعلَن عن التفاؤل به ثمّ تعثره ثمّ فشله في النهاية، ثمّ يبدأ من جديد ليمرّ بالدورة ذاتها، كلما أراد بايدن ونتنياهو.
تخدم هذه الآليّة المتكرّرة العدوان الصهيوني أكثر ممّا تفعله ترسانة السلاح الأميركية المفتوحة طوال الوقت لتزويد الاحتلال بما يحتاجه من عتاد، لكن أضخم ما تلقاه الاحتلال من دعمٍ عربي كان يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، حين تسابقت عواصم عربية في الاصطفاف مع البيت الأبيض والكيان الصهيوني في إدانة عملية طوفان الأقصى، فكان ذلك هو الأساس الذي بُنِيَت عليه كلّ الغطرسة الصهيونية، وتوحشت واطمأنت إلى أنّه لا ردّة فعل عربيّة هناك على توسيع عدوانه.
ويبقى ذلك الضعف العربي أمام غواية التفاوض من أجل التفاوض، مع استنكار فعل المقاومة والسخرية من جدواها، هو الهدية الكبرى التي تلقّاها الكيان الصهيوني، فذهب يمارسُ كلّ أنواع الجريمة في العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة، مطمئنًا إلى أنّ لديه تفويضًا أخلاقيًاً من أنظمةٍ عربية لم تعترض على مبدأ اجتياح غزّة، وإنّما فقط لديها ملاحظات خجولة على حجم الاجتياح والعدوان، وطول مدّته، والأثمان المدفوعة نظير توقفه.
المصدر: العربي الجديد