يقول تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30)، ويقول سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: 165)، يتساءل الكثيرون اليوم عن سبب ما تمر به الأمة من هوان وضعف ووهن؟ ولماذا يتأخر النصر عن المسلمين المستضعفين وقد تكالبت عليهم الأمم من كل جانب؟
ما تمر به الأمة اليوم ما هو إلا نتاج مخالفاتها لسنن الله عز وجل في التغيير، وكثرة الذنوب والتعلق بالدنيا أصاب المسلمين بالوهن؛ فتركوا جهاد العدو وركنوا إلى الدنيا وزينتها وانغمسوا في المعاصي.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (رواه أبو داود)، فترك الجهاد جريمة ليس في حق الأمة وحدها، وإنما في حق مستضعفي العالم الذين ينتظرون دور المسلم في إنقاذهم وتحريرهم.
وإذا قامت طائفة من الأمة على الجهاد، فهناك أسباب تتوجب على تلك الطائفة كي يتحقق النصر والتمكين بفضل الله ورحمته، وهذه الشروط حددها الله عز وجل في كتاب كمقدمة للنصر العزيز وتمكين الأمة ورفع راية دينها، وهذه الأسباب كما في الآية الكريمة(1): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ {45} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال).
قال الإمام ابن القيم: فأمر الله المجاهدين فيها بخمسة أشياء ما اجتمعت في فئة قط إلا نصرت وإن قلت وكثر عدوها:
1- الثبات:
طريق الجنة محفوف بالأشواك والصعوبات والمكاره، ويحوي الكثير من المنزلقات خاصة في أوقات فيلزمه الثبات على دين الله من جهة، والثبات وقت ملاقاة العدو من جهة أخرى، ولا توجد دعوة بغير ابتلاء وتمحيص، ولا يكتمل إيمان المسلم ويتحقق له النصر إلا بالثبات والصبر عند الشدائد، ولذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله الثبات على الأمر فيقول: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».
والله عز وجل يرجع الفضل في ثبات النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذاته سبحانه كما في قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (الإسراء: 74)، والطريق إلى الثبات يلزمه تعلق المجاهد بالله عز وجل والدعاء الذي يمكن أن يذلل المستحيلات، والتعلق بكتاب الله عز وجل تلاوة وحفظاً ودراسة، يقول الله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِين) (النحل: 102).
2- ذكر الله كثيراً:
للذكر في الإسلام فضل عظيم، فهو زاد المؤمن للاستقواء به على شدة المحن، وزاده للتثبت على الطريق، وزاده لاطمئنان قلبه في الدنيا، وزاده في رحلته إلى الآخرة فيحمل معه من الحسنات ما يعادل عشرات الأضعاف على كل حرف، وبذلك فهو زاد المجاهد في سبيل الله ومعين له على تثبيته كذلك في مواجهة العدو، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
3- طاعة الله ورسوله:
طاعة الله ورسوله هي الغاية من رسالة الإسلام لضمان سعادة الإنسان في الدارين، فلا دين بغير طاعة لله ورسوله، كما أنه لا دين بغير جهاد، ولكي يفوز المجاهد فعليه بتحقيق شرط الإسلام الذي يحارب في سبيله، وإلا فكيف يتحقق قبول جهاده أو نصره وهو يعصي الله أو يقصر في حق عبادته؟! يقول تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور: 52)، ويحذر سبحانه من مغبة المعصية: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (النساء: 14).
وعلى مدى التاريخ الإسلامي منذ فجر الرسالة نجد أن ما اتصف به الفاتحون العظماء أنهم كانوا فرساناً بالنهار، ورهباناً بالليل، سجداً قياماً لا يفترون عن الذكر والسجود، ونجد أن معظم الانتصارات التي حققتها الأمة ارتبطت بشهر رمضان وهو شهر العبادة المتميزة والتقوى، فلم يضعفهم الصوم، ولم يوهنهم قيام معظم الليل، بل تحققت معجزات لولا أنها سطرت بالتاريخ ما صدقها أحد، يقول تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ {54} وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور).
والحرب والمواجهة محنة كبيرة لولا أن يتدخل الله عز وجل بعنايته وحفظه للمؤمنين، ولا نيل لمعية الله إلا بطاعته والتقرب إليه بها، فيقول تعالى (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات: 173)، وإلى جانب طاعة الله ورسوله، يجب طاعة القائد في أرض المعركة وذلك واجب الجندي خاصة أثناء القتال وإلا تكن فوضى وسببًا في انفراط صف المسلمين.
4- اتفاق الكلمة وعدم التنازع:
القارئ لتاريخ الإسلام يجد أن أول قواعد بناء الدولة المسلمة في المدينة هو مبدأ التآخي بين المسلمين، وأن أساس هذا المجتمع كان المودة وحسن الظن وتوحيد الصف وإزالة أواصر الخلاف بين الأوس والخزرج حتى صارت كلمتهم واحدة في نصرة هذا الدين ونصرة نبيه، وأن أي خلاف كان يظهر بحكم النفس البشرية كان يتم وأده.
يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103)، فحين تكون مرجعية كل مسلم هو الاعتصام بحبل الله وحكمه، فيكون الصف في هذه الحالة موحداً على وجهة واحدة ووسيلة واحدة، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) (الأنفال: 1)، فأول طريق التمكين للأمة تقوى الله وإصلاح ذات البين، فإذا لم يحقق المسلمون تقوى الله بطاعة الله ورسوله، وتنازعوا واختلفوا، زالت قوتهم، وتسلَّط عليهم أعداؤهم؛ كما قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46)، فالنصر يلزمه قيادة واحدة، وجنود يلتفون حوله يسمعون له ويطيعون في غير معصية، ويحذر الله سبحانه من الوقوع في الفرقة بمآل إلى عذاب عظيم: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105).
5- الصبر:
الأسباب التي ذكرها الله عز وجل في آياته لا تتأتى ولا تتحقق إلا بصبر جميل، والحرب بين الحق والباطل هي طبيعة الحياة على الأرض تحتاج لأنفاس طويلة وثبات وتعلق بالله عز وجل مع يقين بالنصر للمؤمنين، وذلك يستلزم صبراً كبيراً، وقد ربط الله عز وجل النصر بالصبر فيقول تعالى: (وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عـمــران: 120)، وقال: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفَرَجَ مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» (أخرجه الترمذي).
__________________________
(1) أخلاق المجاهد، تأليف الشيخ أبو عمر محمد بن عبدالله السيف، رئيس محكمة التمييز العليا في الشيشان.