د. محمد الجوادي
في عام ١٩٤٩ نجح الزعيم حسني الزعيم في انقلابه الذي بدأ به سلسلة الانقلابات العربية، بعد أن انتهى وجود انقلابيْ العراق واليمن السابقيْن عليه؛ ومنذ ذلك الحين قدمت الانقلابات العسكرية نفسها لشعوبها على أنها حركات ثورية تستهدف التحرير والديمقراطية والتنمية.
ووجدت هذه الانقلابات من معطيات الحياة السياسية السابقة عليها ما يكفل لها أن تبرهن على عنايتها الظاهرة بهذه الميادين، لكنها -ومن دون أن نعيد استعراض التفصيلات المعروفة- سرعان ما اكتشفت أنها لن تستطيع أن تمضي في ظل هذه الثلاثية (التحرير والديمقراطية والتنمية)، وذلك لسببين وجوديين مهمين:
– الأول؛ هو أن الديمقراطية نفسها تتعارض مع استمرار الحالة الانقلابية كما أن استمرار الحالة الانقلابية يتعارض مع الديمقراطية، وهكذا اتجهت الانقلابات إلى إعلاء فكرة أن وجود الثورة فوق وجود الديمقراطية، متذرعة لهذا التوجه بالعديد من الأسباب المكشوفة.
– الثاني؛ هو أن خطط التنمية الجادة تتعارض أيضا مع استمرار الحالة الانقلابية، لأنها تخلق حالة من الوعي البرجوازي الداعي مباشرة إلى التخلي عن التصرفات العسكرية الاستثنائية وما يصحبها من فساد جوهري معوق للتنمية؛ ومن ثم كانت حتمية اللجوء إلى أنماط من التنمية الزائفة، والمعنية أساسا بتفريغ طاقات الشعب بعيدا عن الحراك السياسي والفكري.
كان الملاذ الأمثل -في هذه الحالة- هو الاعتماد على قضية التحرير لتكون بمثابة المبرر المستدام لوجود القائمين بالانقلابات العسكرية في السلطة واستمرارهم فيها، ولم يكن هذا الحل المناور مطروقا من قبل على مدى التاريخ الإنساني الذي أحاط الحروب بباقات من الشرف الأخلاقي والحماسي، لكنه لم يوظفها في قهر جماعة العسكر لشعوبهم تحت دعوى الاستعداد لحرب عدوهم.
مع مضي الزمن، ومع نشأة شبه طبقة اجتماعية مستحدَثة وغير مستكمِلة لشروط الطبقة هي طبقة العسكر المنقلبين ومن إلى جوارهم من المنتفعين بالعسكر المنقلبين؛ تطورت فلسفات جديدة في علم الاجتماع السياسي مستهدفةً إضفاء المشروعية على عملية تغييب الديمقراطية، وذلك من أجل استمرار الاستحواذ على السلطة والاستمتاع بمزاياها التي باتت تتضخم يوما بعد يوم.
كان بعض هذه النظريات بمثابة أطروحات ساذجة لكنها مالئة للفراغ، وكان بعضها الآخر بمثابة تبريرات لاحقة لكنها مفتقدة الصدق؛ فمن النوع الأول تبرز النظرية القائلة بأن الديمقراطية الاجتماعية أهم من الديمقراطية السياسية.
ومن النوع الثاني تبرز النظرية القائلة بأن تربص الاستعمار الجديد بخطط التنمية كان كفيلا بفشلها، مع أن هذه الخطط المزعومة لم تكن -في حقيقة الأمر- إلا فشلا وُضعت عناوينه في سطور، ثم وُضعت قبل العناوين أرقام مسلسلة للإيحاء المفتعل بشكلانية التخطيط.
وعلى كل حال؛ تمادى منظرو الدكتاتورية والعاملون لأجلها في خلط المعاني وتلبيسها، إلى الحد الذي جعل جيلنا عند نشأته يفهم الحرية على غير حقيقتها، حيث صورها لنا دهاقنة العسكر بأنها تقتصر على حرية الأوطان، أي تحررها من الاستعمار (وحبذا أيضا من الرجعية).
وهكذا ابتعد مدلول اللفظ تماما عن الحرية السياسية وحرية الرأي والتعبير، كما ابتعد تماما عن معاني الديمقراطية والانتخابات والتصويت… إلخ.
وعلى سبيل المثل؛ ظل معنى الحرية ملتبسا فيما يُعرض من خطاب سياسي على أذهان المواطنين، بعد أن عادت مصر إلى الحياة السياسية تدريجيا عبر المنابر فالتنظيمات فالأحزاب، ومن خلال الانتخابات الحزبية.
وشيئا فشيئا عادت الأمور الطبيعية إلى الفهم والاستيعاب في أذهان جماعات كبيرة من الجماهير، وذلك برغم المحاولات المفهومة التي قام بها قدامى الكتّاب "الحكوميين" لكي يجدوا مبررا للتدليس في استخدام معنى الحرية السياسية، وتحويله إلى ما قصروه عليه من مفهوم التحرر من الاستعمار فحسب.
كان من الطبيعي أن تتجه الأنظمة العسكرية العربية إلى ما يمكن تسميته توفيق الأوضاع السياسية، لتحقق مشروعية جديدة بعيدة عن المشروعية القديمة التي انتهت نظريا بإعلان الاستقلال، أو بخروج آخر جندي من جنود سلطات الاحتلال الأجنبي.
ومع أن توفيق الأوضاع كان يتطلب إعطاء مساحات أوسع لدولة المؤسسات؛ فإن العسكريين العرب -في مواقع الحكم المطلق- لم يكونوا على أدنى استعداد للقبول بهذا، حتى ولو أن أحدهم خطا خطوات ناجحة في هذا المسار.
بل إن من العجيب أن الحاسة السلطوية عند العسكريين العرب سرعان ما انتبهت لخطورة مثل هذا السعي في توفيق الأوضاع، وسرعان ما أسعفهم دهاقنة اليسار باستعارة لفظ الثورة المضادة لإطلاقه على أية محاولة جادة، للخروج من شرنقة الحكم العسكري المطلق إلى حكم عسري ذي طابع مدني، أو معترف بقدر ما من الحريات السياسية.
ولأن السلطة الغاشمة لا تعدم طريقة في العثور على مبررات للبقاء في موقع السلطة؛ فإنها أسرعت بكل همة إلى قضية فلسطين لتجعلها بمثابة المبرر القوي لوجود هذه الأنظمة العسكرية واستمرارها، بل ولتبديلها بنظُم عسكرية أخرى دون أي تفكير في العودة عن هذا المسار الاستثنائي.
ومن دهاء التاريخ أن العسكر المتعطشين للبقاء في السلطة كانوا حريصين -بذكاء مفرط- على استمرار التعقيد في الصراع العربي الإسرائيلي، حتى إنهم انزعجوا أيما انزعاج حين بدأ هذا الصراع يخالف مساره المعهود بعدما تحقق نصر حرب 6 أكتوبر (1973)، وحصل فض الاشتباك الأول فالثاني ثم المبادرة وكامب ديفد…
وهكذا كان أكثر العرب معارضة لهذا المسار (أياً ما كان صدقه) هي الدكتاتوريات العسكرية التي سارعت -في حماس شديد ولأول مرة في تاريخها- إلى تكوين جبهة الصمود والرفض، وقد كان الأحرى أن تسمى جبهة الحفاظ على الانقلابات العسكرية.
ولم يقف دهاء التاريخ عند هذا الحد؛ فقد اقتنعت كبرى الملكيات العربية -بفضل مستشاريها الأميركيين- بأن أفضل البدائل المتاحة لاستقرارها يتمثل في العمل الدائب على تثبيت وضع النظم العسكرية العربية، والبدء في تحولها التدريجي إلى ملكيات تنتسب إلى آخر فائز في لعبة الكراسي الموسيقية.
ومن دون أن نشغل القارئ بالتفصيلات التاريخية التي يعرفها بحكم المعاصرة؛ فإننا نذكّره بأن القرن الجديد بدأ بأول تجربة ناجحة في هذا المسار، حين خلف بشار الأسد أباه حافظ الأسد في الحكم عام ٢٠٠٠، وطارت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت لتتولى بنفسها إتمام عملية التعميد (أو التدشين) هذه في دمشق.
وكانت هي -وليس غيرها- التي خرجت تعلن للعالم كله ما يعني بوضوح أن أسرة ملكية عربية جديدة ستحكم سوريا، مُضْفيةً بهذا شرعية جديدة على ثلاثين عاما سابقة هي فترة حكم الأب المؤسس حافظ الأسد، وليقال في كتب التاريخ القادمة إن الدولة أو المملكة الأسدية قد أعلِنت في سوريا عام ٢٠٠٠، وإن كان رأس هذه المملكة قد حكم منذ ١٩٧٠.
وعلى حين فجأة؛ جاء التحول الكبير والحاسم في شكل السلطة في الوطن العربي باندلاع الثورات العربية، التي مثلت صعوبة بالغة في فهم آلياتها واستيعاب حركتها وتصور التطور الممكن لها.
وقد بدت هذه الصعوبة واضحة الصدى والملامح في عقليات القوى السياسية العربية التقليدية؛ فقد تفرغت هذه القوى التقليدية لا للبحث عن نقاط التقاء أو احتواء أو تفاهم مع الطلائع الجديدة التي أظهرتها هذه الثورات، وإنما للبحث عن سبل وأد هذه الثورات.
وهكذا لجأت هذه الأنظمة إلى العودة لأنماط سياساتها التقليدية المعروفة، والمتمثلة في قدرتها التقليدية والفائقة على ضبط النفس وتوظيف الحذر والاحتماء بالغموض الإيجابي، والتعويل على النجاح المنتظر من ممارسة الفخر بالتعقل في رد الفعل تجاه ما هو متوقع من طيش الثورات.
ومع هذا؛ فإن جيل الثورات العربية الربيعية كان أذكى من أن يقع في مثل هذه الفخاخ المنصوبة، حتى إنه لم يُعِرْ الأمر أدنى التفات ولا تعقيب حين نجح الطرف الثالث بمصر في استحداث موقف من المواقف التي تتمناها الأنظمة التقليدية في مثل هذا السجال ذي الزمام المنفلت.
بينما حاول الجيل القديم -ومن ضمنه كاتب هذه السطور- أن يعالج الأمر على النحو المعروف في مثل هذه الحالات، بالذهاب في وفد مصالحة من القاهرة إلى الرياض.
ومع مرور الوقت، كانت القوى الرجعية تمضي في تحبيذ التقنية الأميركية التقليدية باللجوء إلى تمويل انقلاب عسكري، ولم يكن الأمر في هذه الحالة سهلا على نحو ما كان في حقبة الحرب الباردة، ذلك أن العنصر البشري نفسه المتمثل في القيادات التي ستتم مخاطبتها لإتمام الانقلاب لم يكن مندفعا ولا جاهزا، على نحو ما كان أسلافه في نهاية الأربعينيات وطيلة الخمسينيات.
كان المرشحون للقيام بالانقلاب أكثر استقرارا في مناصبهم، وأكثر عائدا وأقل رغبة في مظهرية الحكم، وأقل رغبة في المخاطرة مهما كانت مضمونة، وكانوا يرون بأعينهم ويسمعون بأصواتهم أصوات الرعد التي تصدر عن شباب الثورة وهم يهتفون هتافهم الذي لا يخلو منه تجمع ولا مظاهرة.
استدعى هذا الوضع من الراغبين في إحداث الانقلاب في بلد لا يحكمونه تقديمَ ضمانات ومقابلات كافية ومغرية لهؤلاء الذين قد يقبلون بالانقلاب؛ ومع كل خطوة من بروتوكول البرنامج الانقلابي كانت أرقام التمويل ترتفع وتقفز وتتعدد وتعاود الارتفاع والتعدد.
ولم يعد التمويل قاصرا على الإعداد والتحضير والتأمين والمكافأة المسبقة فحسب، ولكنه بدأ يشمل تكاليف تغطيات حملات إعلامية ودبلوماسية واسعة في الخارج، كما بدأ يشمل تكاليف الاستعانة بقوات ومليشيات خاصة مدربة من نوعية بلاك ووتر.
ومع هذا كله ظلت آلية هذه الانقلابات الحديثة مفتقرة إلى أهم مقومات استمرارها كفعل سياسي، بل إن توالي الأحداث وتعاقبها -منذ بدأت حقبة الثورة المضادة لثورات الربيع العربي- بدأت ترسم للانقلاب العسكري ملامح الحالة المَرَضية التي لا يمكن أن يتبناها أحد على المدى الطويل. بينما لم يستطع الانقلاب نفسه -حتى الآن- إيجاد أو تثبيت مبرر وجوده من الأصل أو مبرر بقائه في المستقبل.
ومع أن أكثر الكارهين للثورات العربية يتلمسون العذر لقيادات الانقلابات في غطرستها ودمويتها وعنفها ومجافاتها للإنسانية والعدالة وحقوق الإنسان؛ فإنهم يعرفون حق المعرفة أن التبرير -مهما كان مقبولا- ليس بديلا عن القبول، وأن القبول بأمر واقع في وقت ما ليس مبررا لديمومته، وأن الزعم بالحفاظ على الدولة لا يمكن أن يعني القضاء على روحها ولا على الشعب.
وهكذا أصبح المبرر الأقوى لبقاء حالة الانقلابات العسكرية هو رغبة الجيران الأغنياء في ألا يسمعوا صوت الثورات العربية الهادر.
وباختصار شديد؛ أصبحت الانقلابات العسكرية جزءا من سياسة حمائية رجعية، بعد عصر تتوجت فيه الانقلابات كثورات تحرير يمتد وعدها بالتحرير إلى فلسطين السليبة، التي أصبحت الآن في مرمى سهام الانقلابات العسكرية التي ضحت بآخر ورقة من التوت كان يمكنها أن تستر بعض عورتها.
المصدر: الجزيرة نت