بقلم: الدكتور سناء أبو زيد – رحمه الله

أولًا: أهمية هذه القاعدة( الارتباط بالمبادىء لا بالأشخاص )

لا بد أن يوطِّن المرء نفسه على تحرِّي الحق دائمًا ومتابعته وربط مصيره به فيكون معه حيث يكون، ويدور معه حيث يدور، وفي الوقت نفسه يجب التحرز من الارتباط بالأشخاص.

وهذه القاعدة تفرضها الأسباب الآتية:

أ) ثبات الحق وزوال الأشخاص:

فالحق قديم، والحق خالد، والحق واحد، وقد استمدَّ الحق صفاته هذه من الله عز وجل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)﴾ (الحج: 62).

والأشخاص يزولون ويتقلبون، وتتنازعهم الأهواء والشهوات، وتعتريهم الشبهات، ويغويهم الشيطان، وتغلبهم النفس، ويكون الارتباط بهم كالمشي على أرض تميد أو تمور، أو كركوب سفينة تتقاذفها الأمواج ويتهددها الغرق والهلاك.

ب) الحق حاكم والأشخاص محكومون:

فالحق يحكم على الأشخاص بصلاحهم أو فسادهم، وباستقامتهم أو انحرافهم، وبهداهم أو ضلالهم. ويوزن الأشخاص بميزان الحق، فيثقل من ثقل الحق معه، ويخف مَن يخف الحق معه، ولا وزن البتة لمن تنكَّر للحق وأدار له ظهره ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8)﴾ (الأعراف: 8). ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَأمَةِ وَزْنًا (105)﴾ (الكهف).

ثانيًا: أسباب التنازع مع الحق

قلما تُسِلم النفس قيادها للحق طائعةً مختارةً، ولكن تتنازعها النوازع وتتدافعها الدوافع، إلا مَن أخذها بشدة وألجمها بلجام التقوى وربَّاها وزكاها ففاز وسعد ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).

ومن هذه النوازع:

أ) اتباع الهوى: فهناك مَن يسارع فيما يمليه عليه هواه وما يشير به رأيه، ويميل إليه مزاجه من غير أن يقيس أمره بمقياس الحق، وهذا من أشدِّ الناس ضلالًا وعمى ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾ (القصص). ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَأوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)﴾ (الجاثية).

ب) رؤية النفس: وهي داء وبيل، يرى المصاب به نفسه فوق غيره ويعتبر نفسه مرجعًا يُقاس عليه، ولا يخضع هو لمقاييس الحق المقررة، وبالتالي يعمى عن الحق ويضرب بعيدًا عنه، وأول المبتلين بهذا الداء إبليس اللعين، الذي أُمر أن يسجد لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين بدافعٍ من رؤيةِ النفس، كما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾ (الأعراف).

وقد صدَّت هذه العلة فرعون عن السبيل، فضلَّ هو وأضلَّ قومه معه، كما ورد في قوله تعالى على لسانه: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)﴾ (الزخرف)، وقد أرسل يوسف بن الحسن إلى الجنيد ناصحًا فقال: «لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقته مرةً لم تذق بعدها خيرًا قط».

ج) مسايرة الواقع: فقد يفرض الواقع الباطل نفسه وتستهوي الأعراف والتقاليد مَن لم يستهدِ بنورِ الحق في طريق الحياة، فتراه متشبثًا بما اعتاد من باطلٍ، مقاومًا لكل تغيير ولو إلى الحق، كما في قوله تعالى: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ أمْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)﴾ (ص).

وإن تعجب فعجبٌ دعاء المشركين عندما التقوا بالمسلمين في بدر: «اللهم أقطعنا للرحم ومَن أتانا بما لا نعرف»؛ أي عليك بأقطعنا للرحم ومَن أتانا بما لا نعرف قاصدين بذلك رسول الله ﷺ!

د) اتباع الآباء: فمن الناس مَن يُفتن بمسلك الآباء، مهما جافى الصواب وجانب الحق، كما في قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)﴾ (الزخرف).

هـ) التبعية للأشخاص عمومًا: إما لزعامتهم المسيطرة وقوة شخصيتهم وشدة تأثيرهم في غيرهم، أو لمبالغتهم في جانب من جوانب الحق.

و) الخوف: فقد يتملك الخوف قلوب الناس حين يعرض عليهم الحق ويتخيلون صنوفًا من الإيذاء والابتلاء تصادفهم إن هم اتبعوه. فيؤثرون العافية ويركنون إلى الدعة والراحة باستمرارهم على الباطل. ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)﴾ (القصص).

وما حملهم على هذا- في الواقع- إلا الجهل بحقيقة الأمور ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام: من الآية 37)، وكذلك السقوط في شراك الكيد الشيطاني رغم أنه ضعيفٌ في ذاته ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء: من الآية 76)، ثم هو يخوف بضعاف من أوليائه ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)﴾ (آل عمران).

ثالثًا: صور الارتباط بالحق

1- المفارقة الكاملة إلى الحق:

فقط يرتبط الناس بروابط متينة من قربى أو رحم أو مصاهرة ويضربون معًا في بيداء الحياة من غير نورٍ ولا بصيرة ولا هدى، ثم يجيء منادي الإيمان وداعي الحق فيبادر بعضهم بالإجابة والاتباع، ويستعلي على تلك الأواصر السالفة، ويستخف بها عند تعارضها مع الحق الذي آمن به وصار أغلى وأعلى ما يعتز به ويحرص عليه.

ونماذج هذا فيما يلي:

أ) أبو بكر مع ابنه: فحين أخبره ابنه وكان في صفوف المشركين أنه كان يتحاشاه في القتال في بدر، أجابه أبوه الصديق: «ولكني كنتُ حريصًا على قتلك ولو كنت في مرمى سهمي لقتلتك».

ب) مصعب بن عمير وأخوه: فها هو أخوه يرسف في أغلاله ويمسك أحد المسلمين بتلابيبه – وكان من أسرى بدر- ثم يلمح أخاه مصعبًا وهو في هذه الحال البئيسة فكان له مثل قارب النجاة للغريق ولكنه فوجئ بصدمة عنيفة حين قال مصعب لمَن يأسره: «اشدد عليه فإنَّ له أمًا ذات ثراء ولعلها أن تفديه»، فيرد متحسرًا منكسرًا «أهذه وصاتك بأخيك؟ ». فيصدمه مصعب صدمةً أشد بقوله: «هو أخي دونك»، يا سبحان الله! ألهذا الحدِّ يصنع الحق في القلوب؟ نعم. وأشد!

2- غياب رمز الحق:

فقد يغيب عن الساحة رمز الحق وحامل لوائه بموتٍ أو غيره فما يصنع حينئذٍ جندُ الحق وناصروه؟ أينكثون وينصرفون والعياذ بالله أم يستمسكون ويصبرون ويثبتون ويواصلون. وهذا ما نوضحه فيما يلي:

أ) شائعة موت النبي ﷺ في أحد: فقد سرت هذه الشائعة في الناس سريان النار في الهشيم، وقعد الناس حيارى مستسلمين تاركين القتال، وما زال الأعداء يصولون ويجولون في ساحة المعركة يُعملون سيوفهم في رقابِ المؤمنين، وفي هذه الأثناء يمر أنس بن النضر- رضي الله عنه – بعمر وطلحة بن عبيد الله وهم قعود يبكون فيسأل: «ما أقعدكم هكذا» فتكون الإجابة: «قُتل رسول الله ﷺ»، فيعطيهم درسًا بليغًا بكلمات الإيمان العميق والوعي الدقيق «قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ»، ثم انطلق هو كالعاصفة القاصفة تدمر كل شيء بأمر ربها حتى نال الشهادة ولقي ربَّه مع الصادقين، وقد أصابته بضع وثمانون جراحة – بل وسامًا – فلم يعرفه أحدٌ إلا أخته عرفته ببنانه، وفي مثله نزل قول الله تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾ (الأحزاب).

3- الانحياز إلى الحق في موقف:

فقد يخالف الناس شيئًا من مقتضيات الالتزام بالحقِّ في موقف من المواقف أو قد يقعد الناس عن واجب يمليه الاستمساك بالحق فنرى فريقًا آخر ممن عرف معنى الارتباط بالمبادئ ينحازون إلى الحقِّ ويؤثرونه على سائرِ العلائق والوشائج كما يتضح في الأمثلة التالية:

أ) عبد الله بن عبد الله بن أُبي وأبوه: فحين قال أبوه مقالته الشنعاء «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» وقف له بسيفه على مشارف المدينة متحديًا ومؤدبًا «أنت القائل كذا، والله لتعلمن لمَن العزة اليوم لك أم لرسول الله، والله لا يؤويك ظله ولا تؤويه أبدًا – أي بيته – إلا بإذنٍ من رسول الله ﷺ».

رابعًا: حسنة وحيدة

وإن كان للارتباط بالأشخاص لا بالمبادئ ما له من الأضرار والأخطار كما علمنا فإن له حسنة لا نغفلها. وذلك حين يستفيد الفرد من صلته بغيره وثقتهم به واتباعهم له في اصطحابهم معه إلى ساحةِ الحق الذي آمن به، ونسوق نموذج سعد بن معاذ توضيحا لهذا المعنى:

فحين أسلم على يدي مصعب بن عمير رجع إلى قومه بني عبد الأشهل فجمعهم وسألهم: «يا بني عبد الأشهل ما تظنونني فيكم» قالوا: «سيدنا وابن سيدنا» فقال:«فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علىَّ حتى تشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، فما بات أحدٌ من بني عبد الأشهل إلا مسلمًا.

والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين  -  منقول – بتصرف