ماذا يملك البشر في هذا الكون؟

هذا الكون خلقه الله الذي خلق كل شيء وسخره لمنفعة البشر , وسلطهم عليه بما وهبهم من عقول , واستخلف البشر واستعمرهم في الأرض، ولكنه قيدهم بطاعته والاهتداء بهديه.

ولا شك أن البشر في تسلطهم على الكون , واستغلال ما فيه من قوى, والانتفاع بما فيه من خيرات , ويحتاجون في حفظ حياتهم والاحتفاظ بقوتهم و نشاطهم إلى طعام و دواء و لباس وفراش ومأوى , كما يحتاجون إلى ما يستعينون به على استغلال الكون من أدوات وآلات وحيوانات .

و استغلال الكون بعد ذلك يقتضي البشر أن يسيطروا على بعض الأرض يستنبتون فيها الزرع أو يرعون ما فيها من حشائش أو يستغلون ما فيها من أشجار, أو يستخرجون ما فيها من معادن أو زيوت , أو يقيمون عليها مساكنهم ومخازنهم ومتاجرهم ومصانعهم وقرأهم ومدنهم .

ثم إن عجز البشر في طفولتهم وشيخوختهم ومرضهم يدعوهم لأن يدخروا لأبنائهم ما يحييهم في طفولتهم , وإلى أن يدخروا لأنفسهم ما يعينهم على شيخوختهم ومرضهم .

و قد تنمو الرغبة في ادخال القليل وتتحول إلى رغبة في ادخارا الكثير , وهذا المدخر يتشكل أشكالا مختلفة بحسب ظروف كل شخص فيكون عقارا أو منقولا أو حيوانات أو معادن.

فهل يمتلك البشر كل هذا الذي يحتاجونه أو يجتازونه أو يدخرونه ؟ ما حدود ملكيتهم؟و هل هي ملكية تامة أو هي مليكة ناقصة؟ و هل هي ملكية مطلقة أم هي مليكة مقيدة ؟

المال لله و للبشر حق الانتفاع

ونستطيع في سهولة ويسر اذا رجعنا إلى ما لدينا من نصوص ورتبنا معلوماتنا ترتيبا منطقيا أن نصل إلى نتيجة واحدة هي أن المال كله لله وأن البشر لا يملكون منه إلا حق الانتفاع به .

فالله جل شأنه هو الذي خلق وما بينهما و ما فيهما من شيء "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء " الأنعام:102,"هو الذي خلق لكم ما في السماوات والأرض جميعا " البقرة:29,"الله الذي خلق السموات والأرض"ابراهيم :32.

ومنطقنا البشري يقتضي أن يكون خالق الشيء هو مالكه , و بهذا المنطق نفسه جاءت نصوص القرآن؛ فهي قاطعة في أن الله له ملك السموات والأرض و ما بينهما :"لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما "المائدة:17 , و أنه يملك كل شيء في السموات و كل شيء في السموات و كل شيء في الأرض من صغير وكبير سواء كان له قيمة مالية أو لم يكن له قيمة مالية ."لله ملك السموات و الأرض و ما فيهن", و أنه جل شأنه يملك كل هذا وحده دون أن يكون له ملكه شريك من البشر أو غير البشر, "و لم يكن له شريك في الملك"الاسراء:111.

و لكن الله جل شأنه استعمر البشر في الأرض :"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"هود:61, و جعلهم خلائف فيها على ما سبق بيانه:"هو الذي جعلكم خلائف الأرض"فاطر:39, وسخر لهم كل ما خلق في السموات و الأرض وسلطهم عليه بقدر ما يستطيعون من استغلاله واستثماره :"ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة "لقمان:20."و سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه"الجاثية:13.

ولم يسخر الله ملكه لفرد دون فرد , أو لفئة دون فئة , وانما سخره للبشر جميعا و جعله مشاعا بين عباده الذين استخلفهم في الأرض ليعيشوا فيه وينتفعوا به , فما يعيش أحد منهم في ملكه , و ما ينتفع إلا بملك الله , وليس أحد مهم أحق بملك الله من غيره , و قد جعل الله منفعته لكل البشر سواء .

ولقد بين الله لعباده الذين استخلفهم في الأرض أنهم حينما يستغلون ما خلق و يستثمرونه و يحصلون على منافعه لا يأتون بشيء من عندهم , وإنما هو رزق من الله يسوقه إليهم , وفضل آخر يغمرهم به :"قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله"سبأ:24.."هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء و الأرض"فاطر:3.

وإذا لم يكن ثمة من يرزق غير الله فعلى البشر أن يطلبوا الرزق من الله وحده , وأن يبتغوه عنده "فابتغوا عند الله الرزق"العنكبوت:17, فهو الرازق القوي على خلق الرزق وايصاله للمرزوقين "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"الذاريات:28.

فملك الله مسخر لمنفعة البشر , ولهم جميعا أن ينتفعوا به و يستغلوه ويستثمروه و يعملوا فيه , و الله مؤتيهم ثمرات الملك وغلته وأجورهم رزقا من عنده , وما لرزقه من نفاد , وما جعل الله هذا كله إلا نعمة منه على البشر , ما يعود عليه من نفع , تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

ولقد علمنا فيما سبق أن ما في أيدي البشر من ملك الله وثمراته أنما هو عارية ينتفع بها البشر , وأن القيام على العارية في فقه البشر نيابة وان كانت نيابة العبد عن ربه و المملوك عن ماله , كذلك علمنا أن مركز المستخلفين في الأرض هو مركز الخليفة أو النائب , وأن الخلافة أو النيابة هي عن الله جل شأنه , وهي قائمة في حدود ما سخر الله للبشر من مخلوقاته , و ما سلطهم عليه ملكه , وما خولهم في ذلك كله من الاستغلال و الانتفاع .

و اذا كان الله جل شأنه وهو مالك كل شيء قد سخر ما يملك لينتفع به عامة البشر الذين استخلفهم في الأرض , فإنه جل شأنه هو الذي يمنح كل فرد منهم ما في يده من هذا الملك الواسع " والله يؤتي ملكه من يشاء"البقرة:247.

سواء كان ما في يد الفرد قليلا لا يزيد على حاجته أو كثيرا يكفي العشرات والمئات "إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر "الرعد:26.و ما تغير هذه المنح أيا كانت صفى الممنوحين , فما هم إلا بعض أفراد البشر المستخلفين في الأرض يقومون على ملك الله , و ما هذا الملك إلا عارية في أيديهم , وما مركزهم من هذا الملك إلا مركز النائب أو الخليفة , و ما لهم من سلطان على هذا الملك إلا ما خولهم الله من استغلاله و الانتفاع به .

و لقد فرض الله على البشر أن ينفقوا من ماله الذي استخلفهم فيه و جعلهم قواما عليه "و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه"الحديد:7. و لم يترك لهم الخيار في الانفاق , وعحب ألا ينفقوا . وما ينفقون إلا مما رزقهم الله وآتاهم إياه "وماذا عليهم لو آمنوا بالله و اليوم الآخر وانفقوا مما رزقهم الله " النساء:39 .

وما أمر الله البشر أن ينفقوا ألا ذكرهم أنهم ينفقون من ماله الذي آتاهم , ورزقه الذي ساقه إليهم , والنصوص في ذلك كثيرة منها قوله "وانفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " المنافقون:10. "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال" البقرة:254."قل لعبادي الذين آمنوا يقيمون الصلاة و ينفقون مما رزقناهم سرا و علانية " إبراهيم:31. " الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون"البقرة:3.

واذا كان المال مال الله وهو عارية في يد البشر الذين استخلفهم عليه فليس للبشر أن يتأخروا عن إنفاذ أمر الله في هذا المال فإذا أمرهم أن يؤتوا فئات من الناس شيئا من هذا المال فعليهم أن يبادروا بذلك ما يؤتونهم إلا من مال الله "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم"النور:33.

وعلى كل فرد في يده شيء من المال – وكل مال هو مال الله- أن يطيع أمر الله فيه , سواء قل ما في يده أو كثر " و من قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها"الطلاق:7.

و لا يظنن أحد أن ما في يده من مال الله هو رزق خصه الله به فيمنعه عن غيره , و يبخل به على من يستحقه , فإن الله يرزق الناس ويؤتيهم ملكه ليقوموا عليه في حدود أمره و نهيه , واذا فضل الله بعض الناس على بعض في الرزق فلا يحسبن صاحب الرزق الكثير إذا أنفق أو أعطى غيره أنه ينفق أو يعطي من رزقه , و ليعلم أنه ينفق من مال الله , وأنه لا يعطي شيئا من عنده , وإنما هو وسيط أعطى غيره من مال الله كما أخذ لنفسه من مال الله " وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلرِّزْقِ ۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ "النحل:71.

ولا يفوتنا أن نلاحظ أن بعض نصوص القرآن نسبت المال لأفراد البشر من ذلك قوله تعالى:" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"البقرة:188.

, وقوله :"و آتوا اليتامى أموالهم " النساء :2 . وقوله :"لتبلون في أموالكم و أنفسكم"آل عمران:186. و قوله:"خذ من أموالهم صدقة" التوبة:103. و قوله"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " التوبة:111. و قوله:"و في أموالهم حق للسائل والمحروم"الذاريات:11.

واضافة المال للبشر في هذه النصوص وغيرها لا تفيد أن البشر ملكوا المال , وإنما تفيد أنهم ملكوا حق الانتفاع به , فالمال مال الله كما قدمنا , وهو مالك كل شيء , و انما سخره للبشر لينتفعوا به , فاذا أضيف اليهم فالإضافة لا يقصد منها إلا ملك الانتفاع. والقاعدة أن الاضافة يكفي فيها أدنى الأسباب , ولقد أضاف القرآن مال السفهاء إلى أوليائهم , لا لأنهم ملكوا المال , و لكن لأنهم يملكون حق التصرف فيه بما لهم من حق الولاية , فقال جل شأنه : "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وأروقوهم فيها وأكسبوهم وقولوا لهم قولا معروفا"النساء:5. فإضافة مال الله للبشر لأن لهم حق الانتفاع به هو نوع اضافة مال السفهاء إلى أوليائهم , لأن لهم حق التصرف فيه .

وبعد فان النصوص لا يصح أن تفسر على ظاهرها ما دام هناك نصوص أخرى تناقضها .. والقاعدة أن نصوص القرآن لا يترك بعضها لبعض , وانما تؤخذ جملة و تفسر مجتمعة , والتفسير الصحيح الذي يرفع التناقض يقتضي اعتبارا نسبة المال للبشر نسبة مجازية , وأنه نسب اليهم لوجوده في أيديهم , ولما لهم من حق الانتفاع به في الحدود التي رسمها الله .

ونخلص من ذلك كله لأن ما في يد البشر من مال على اختلاف أنواعه وأشكاله و مقاديره وما ينتجه هذا المال من أموال انما هي جيمعا مال الله لا مالهم وملكه لا ملكهم أقامهم عليه واستخلفهم فيه فما يملكون من هذا المال الا حق الانتفاع به و ما يستتبع حق الانتفاع بمال من استهلاكه و التصرف فيه .

حدود حق البشر في الانتفاع بمال الله

للبشر حق الانتفاع بما في أيديهم من مال الله، وهو الحق الوحيد الذي لهم على هذا المال .. والانتفاع بالمال قد يكون باستغلاله أو استثماره كما هو الحال في الأراضي الزراعية و المناجم و المحاجر , و قد يكون باستهلاك المال كما هو الحال في الطعام والشراب والثمار , وقد يكون بالتصرف في المال تصرفا شرعيا كالبيع و الوصية و الهبة .

وللبشر أن ينتفعوا بمال الله على هذه الوجوه كلها , و لن يخرجهم عن كونهم منتفعين بالمال أن لهم حق استهلاك بعضه , ذلك أن لهم حق الانتفاع فاذا لم يكن الانتفاع ممكنا إلا بالاستهلاك كان الاستهلاك هو عين الانتفاع , و لقد أباح الله جل شأنه للبشر أن يستهلكوا من ماله كل ما يقتضي الانتفاع به أن يستهلك , فأباح لهم استهلاك الطعام والشراب و الثمار واللباس والأثاث , كما أباح لهم استهلاك جميع الطيبات , و جميع ما تقتضي ظروف حياتهم استهلاكه , و النصوص في ذلك صريحة منها قوله جل شأنه:"كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا"المائدة:18."كلوا و اشربوا من رزق الله " البقرة: 60 ."يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم"البقرة:172. "كلوا من ثمره إذا أثمر "الأنعام:141. " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم و يو اقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين .والله جعل لكم مما خلق ظلالا و جعل لكم من الجبال أكنانا و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر و سرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون"النحل:80,81"وآتاكم من كل ما سألتموه"إبراهيم:44. " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" الأعراف:32.

وحق البشر في الانتفاع بمال الله ليس حقا مطلقا , وإنما هو حق مقيد بقيود , فليس لهم أن ينتفعوا بهذا المال كما يشاءون , وإنما لهم أن ينتفعوا به فقط في حدود حاجتهم لهذا المال و بالقدر الذي يكف عنهم الحاجة ويدفعها , بشرط أن يكون ذلك كله في حدود الاعتدال دون سرف أو تقتير , فليس لهم أن يسرفوا في طعامهم وشرابهم ولباسهم وأمور معيشتهم , وما يجوز لهم أن يقتروا على أنفسهم , وعليهم أن يتوسطوا بين الأمرين وأن لا يتجاوزوا الاعتدال , فقد حرم الله عليهم السرف و بسط اليد في المال كما حرم عليهم التقتير وقبض اليد عن النفس بما هي محتاجة إليه ."كلوا واشربوا من طيبات ما رزقناكم و لا تظغوا فيه" طه:81 . " والذين اذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " الفرقان:67. " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " الإسراء:29.

واذا كان للفرد أن يأخذ من مال الله ما يكفي حاجته , فان له أيضا أن يأخذ من هذا المال ما يكفي حاجة أهله الذين تلزمه نفقتهم كالزوجة و الأولاد والأبوين , وله أيضا أن يأخذ بعض مال الله لينفقه في حفظ بقية المال , وفي استغلاله و تثميره , و له أن يفعل ذلك كله في حدود الاعتدال دون سرف أو تقتير . ما يترتب على كون المال لله :

يترتب على أن المال مال الله النتائج الآتية :

 لا يجوز لأحد كائنا من كان أن يتملك المال تملكا نهائيا , ولا يجوز لأحد أن يكون له على المال إلا ملك المنفعة , لأن حقوق الله ثابتة له جل شأنه , وليس لأحد من البشر أن يتصرف فيها أو يتنازل عنها حاكما كان أو محكوما فردا أو جماعة .

2- ان للجماعة بواسطة ممثليها من الحكام وأهل الشورى أن تنظم طريقة الانتفاع بالمال , إذ المال وإن كان لله إلا أنه جعله لمنفعة الجماعة , والقاعدة في الإسلام أن كل ما ينسب من الحقوق لله إنما هو لمنفعة الجماعة وهي التي تشرف عليه دون الأفراد .

3- ان للجماعة بواسطة ممثليها من الحكام وأهل الشورى أن ترفع يد مالك المنفقعة عن المال اذا اقتضت ذلك مصلحة عامة , بشرط أن تعوضه عن ملكية المنفعة تعويضا مناسبا, اذ الاسلام لا يجيز الغصب ولا يحل أخذ المال بغير طيب نفس صاحبه , كما لا يحل أخذه بالباطل و ذلك قول الله تعالى "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل "البقرة:188. و قول الرسول صلى الله عليه و سلم "كل المسلم على المسلم حرام , دمه وعرضه وماله" و قوله " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام".

4- أن الإسلام وإن كان يبيح حرية التملك إلى غير حد , إلا أنه يجيز للجماعة بواسطة ممثليها وباعتبارها القائمة على حقوق اللهو تنظيم الانتفاع بها أن تحدد ما يملكه الشخص من مال معين اذا اقتضت ذلك مصلحة عامة كتحديد الملكية الزراعية بقدر معين أو ملكية أراضي البناء .

ما يترتب على حق البشر في الانتفاع بمال الله : و يترتب على أن للبشر الانتفاع بمال الله و تملك حق الانتفاع نتائج هي :

1- اذا كانت الجماعة قائمة على حق الله وهو ملكية المال , فليس لها أن تمس ملكية الانتفاع ليس لها أن تحرم ملكية الانتفاع التي جعلها الله للأفراد .

2- أن ملكية المنفعة تتصل بالعين كما تتصل بالشخص فيجوز لمالك المنفعة أن ينقلها إلى غيره بالبيع والرهن والوصية وغيرها من التصرفات الشرعية , كما أنها تنتقل عن المالك بوفاته إلى ورثته .

3- ان ملكية المنفعة الدائمة في أصلها بالنسبة للأفراد أي أنها غير مقيدة بمدة معينة , فيصح أن يظل الشيء في حيازة شخص معين ينتفع به حتى يموت ثم يتوارثه عنه أولاده و أولادهم حتى ينقرضوا كما هو الحال في الوقف .

4- ان ملكية المنفعة انما جعلت لينتفع بها الفرد بطريق مباشر , ولتنتفع بها الجماعة من طريق غير مباشر , فاذا عطل المنتفع المال فلم ينتفع به فقد عطل انتفاع الجماعة , وكان للجماعة أن ترفع يده عنه بشرط أن تعوضه عنه بما يقابل قيمته .

حقوق الغير في مال الله

وإذا كان لكل فرد حق الانتفاع بما في يده من مال الله في الحدود التي بناها , فان للغير حقوقا فرضها الله في هذا المال و أوجب على من في يده المال أن يقوم بها باعتباره مستخلفا في مال الله , وهذه الحقوق هي :

1- الزكاة : وهي فريضة في مال الله , فعلى كل فرد في يده شيء من مال الله أن يخرجها من هذا المال إذا بلغ قدرا معينا , و يؤديها إلى الحاكم ليردها على ذوي الحاجة طبقا لنصوص القرآن .

والزكاة كالصلاة من مباني الإسلام , يقول الرسول صلى الله عليه و سلم "بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله و إقام الصلاة و ايتاء الزكاة و وصوم رمضان و حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا " .

وأكثر النصوص تجمع بين الصلاة والزكاة , كقوله تعالى "و أقيموا الصلاة و آتوا الزاكة " البقرة:83. و قوله "فان تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " التوبة:5 و كقول الرسول صلى الله عليه و سلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا لله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله " .

والزكاة فريضة في المال , و لذلك تجب على الرجال والنساء والصغار والكبار , لقوله تعالى "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها" التوبة 103 . و مقدارها يختلف باختلاف المال , فقد تصل إلى عشر المال كما في المستنبت المقتات , وقد تصل إلى 2.5 % من المال كما في الحلي و النقود , وقد تكون أقل من ذلك كما في زكاة الأنعام .

وتجب الزكاة في كل مال حال عليه الحول , أي مضى عليه عام في يد المستخلف عليه , لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " .

2- الانفاق :وإنفاق المال يعتبر في الإسلام صفة من الصفات الدالة على الإسلام و على الايمان وعلى طاعة الله والقيام بأمره , وحينما وصف الله المتقين وصفهم بأنهم :"الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" البقرة:3, فسوى جل شأنه بين الايمان بالغيب واقامة الصلاة والإنفاق وجعلها جميعا علامة على التقوى .

ووصف الله المؤمنين بأنهم هم الذين يخشون ربهم فإذا ذكر وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا على إيمانهم , وأنهم يعملون ويحسنون عملهم ما استطاعوا ثم يتوكلون يعد ذلك على ربهم , وأنهم الذين يقيمون الصلاة و ينفقون مما رزقهم الله , وأكد الله لنا أن هذه الأوصاف هي أوصاف المؤمن الحقيقي , فالإنفاق إذن صفة من صفات المؤمن , وعلامة على الإيمان الحق "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقا" الأنفال 2-4 .

بل إن الإنفاق يعتبر في الإسلام أصلا من أصول البر أي الخير , فلا يتم الخير إلا بالانفاق , لقوله تعالى :ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين , و آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب , واقام الصلاة وآتى الزكاة , والموفون بعهدهم إذا عاهدوا , والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس , أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" البقرة:177.

ويلاحظ على نص الآية أولا: جعل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أصلا من أصول البر أي الخير , وجعل الأعمال الصالحة المترتبة على الايمان و التي هي نتيجة له أصلا ثانيا للبر أي الخير . فالخير هو ما يهدف إليه الاسلام , والأصول التي يقوم عليها هي الايمان المجرد ثم إتيان ما يقتضيه الإيمان من الأعمال . ومثل ذلك قوله تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " آل عمران:104, فالغاية هي الدعوة إلى الخير والوسائل هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ويدخل تحتها كل ما جاء به الإسلام , و من ذلك قوله تعالى:"لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات " المائدة:48, فغاية الأديان ليست إلا الخير , وما تدعو الناس إلا إلى الاستباق في عمل الخير , و وسائلها إلى ذلك هي الإيمان بالله , و العمل طبقا لما أمر الله .

ويلاحظ على نص الآية ثانيا: أنه جعل الانفاق على رأس الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى الخير وهو غاية الإسلام وهدفه , كذلك قدم النص الانفاق على الصلاة و الزكاة , ويكفي هذا دليلا على مكانة الإنفاق في الإسلام , ودليلا على أن الإسلام لا يتحقق في مسلم يمتنع عن الانفاق .

وقد بين لنا الله جل شأنه أننا لن نصل إلى ما يهدف إليه الإسلام وهو الخير حتى ننفق من أحب أموالنا وأكرمها علينا , فقال جل شأنه :"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" آل عمران :92, ومن أنفق مما يحب هان عليه ما دونه .

ويتبين مما سبق غاية الإسلام هي الخير , وأن وسائله للخير هي الإيمان والأعمال الصالحة , وأن الانفاق هو أول الأعمال الصالحة , وأن الامتناع عن الانفاق يحول دون الوصول إلى غاية الإسلام وهي الخير , وإذا كان الإنفاق وسيلة من وسائل الإسلام إلى الخير ونتيجة من نتائج الإيمان بالله , فإن المسلم الذي يمتنع عن الإنفاق يشهد على نفسه بأنه يعصي الله , وانه يعطل الإسلام , و أنه لم يؤمن بالله حق الايمان .

أنواع الانفاق : والإنفاق نوعان : إنفاق الفريضة , و إنفاق التطوع , وانفاق الفريضة نوعان : انفاق في سبيل الله , و انفاق على ذوي الحاجة .

وانفاق الفريضة هو ما يجب أنفاقه من المال , وما للحاكم أن يأخذه ليصرفه في مصارفه , رضي ذلك المستخلف على المال أم كرهه , أما انفاق التطوع فهو ما ترك للمستخلف أن ينفقه دون أن يجبره على إنفاقه أحد .

من كتاب "الإسلام وأوضاعنا السياسية" للقاضي الشهيد الدكتور عبد القادر عوده رحمه الله.