هكذا كانت صفة الرعيل الأول (فرسان في النهار رهبان في الليل)، فهم الذين زكوا أنفسهم حتى سهل قيادها، فأصبحوا هم السادة لأنفسهم، ولم يقبلوا بأن يكونوا عبيدًا لها توجههم حيث شاءت، فأصبحوا هم الاستثناء من الأصل في النفوس الأمارة بالسوء، ذلك بقوله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) يوسف 53، وأخذوا أنفسهم بالعزائم؛ حتى صارت أشق العبادات أحبها إلى نفوسهم، حتى إنه يروى لأكثر من واحد منهم بأنه لا يتحسر على شيء من الدنيا سوى (مكابدة الليل وظمأ الهواجر)، وهما قيام الليل وصيام النهار.

ولأن قيام الليل من أشد العبادات، كان هو الشغل الشاغل لهم، والذين لا يجدون لذة المناجاة إلا في غماره، حتى جعلت تلميذًا من تلاميذهم وهو عطاء بن رباح يصفه بأنه «محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والأعضاء كلها، وإن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحًا مسرورًا، وإذا نام عن حزبه أصبح حزينا مكسور القلب، كأنه قد فقد شيئًا، وقد فقد أعظم الأمور نفعًا».

فلا يستغرب بعد ذلك أن تكون هذه العبادة الشاقة على النفس هي التي ربى فيها الله سبحانه نبيه ﷺ قبل أن يبعثه، وكانت واجبة عليه وعلى أتباعه في البداية، ذلك لأن جيل التأسيس لا يستطيع القيام بمهام الدعوة العظيمة مالم يكن صلب القاعدة، متين الأساس. هذا ما دعا الإمام محمد بن سيرين أن يجعلها من مكونات القدوات، فقال: «لا بدَّ من قيام الليل، ولو بقرب حلب الشاة»

عشاق الليل

ووصل حبهم لقيام الليل أنهم كانوا يحزنون حين إدباره، وإقدام النهار وها هو الإمام الجليل سفيان الثوري يقول: «إذا جاء الليل فرحت، وإذا جاء النهار حزنت». ويُخبر عنه أبو يزيد المعنى بأنه كان «إذا أصبح مد رجليه إلى الحائط، ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل».

كيف لا يعشقون الليل وفيه ينزل الرب سبحانه إلى السماء الدنيا، فيزداد الشعور بالقرب، وتزداد لذة المناجاة، وكيف لا يعشقونه وهو أحد الطرق الموصلة للجنة بسلام، وذلك لقوله ﷺ: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام.» رواه البخاري ومسلم. وكيف لا يعشقونه وقد كان قدوتهم وحبيبهم ﷺ «يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.»، وهم الحريصون على الاقتداء به ليُحشروا معه.

تعاهد الأجيال

ولحرصهم على هذه العبادة، كانوا يتعاهدون جيلًا بعد جيل، وكان الآباء يغرسونها في نفوس الأبناء، فعن معاوية بن قرة أن أباه كان يقول لبنيه إذا صلوا العشاء: «يا بني ناموا لعل الله يرزقكم من الليل خيرًا». ، وكان لأبى هريرة رضي الله عنه تقسيمة أخرى لليل، فكان «يقوم ثلث الليل، وتقوم امرأته ثلث الليل، ويقوم ابنه ثلث الليل، إذا نام هذا قام هذا».

وكأنه يمتثل حديث النبي ﷺ الذي يقول فيه: «رحم الله رجلًا قام من الليل، فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء.» رواه أبو داود.

قيود الخطايا

وكان الحسن البصري يعد تارك القيام محرومًا، لأنه حُرم من خير كبير، فيه مناجاة الحبيب، وفيه الانتصار على النفس، وفيه الترفع عن جواذب الطين، فهو يُصرح بأنه «إذا لم تقدر على قيام الليل، ولا صيام النهار، فاعلم أنك محروم، قد كبلتك الخطايا والذنوب».

وكان يعتبر الخطايا قيوداً تمنع التوفيق لفعل هذا الخير، ولا بدّ من توبة نصوح، واستغفار نقي، كي ينشرح الصدر لهذه العبادة، فقد جاءه رجل يسأله: «يا أبا سعيد: اعيانى قيام الليل فما أطيقه! فقال: يابن أخى استغفر الله، وتب إليه، فإنها علامة سوء». وكان يقول: «إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل».

فمن أراد أن ينتمي إلى زمرة (رهبان الليل)؛ ليس أمامه إلا الابتعاد عن الذنوب، والانتصار على النفس.