إن مسلماً نودي بالسير مع الهمم العالية فانـتـفـض، وأفـلـت من قـيود الأرض، وحلق بجناح العزة : هـو مسلم حري به أن يتم انتـفاضتـه بخطوة تميـز واضحة .

أو كما قال سيد رحمه الله: إن " أولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج و يتـفرد، ولا يتـلـقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم ، كيما يظل المنهج نظيفاً سليماً، إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى " 143 ... وهذا يعني قيام مفاصلة شعورية وفكرية في ضمير المسلم ، يـنـفـصل فيها التحديد الإسلامي الواضح للمعاني الثلاثة المهمة المكونة لكل منهج ، وهي : معنى الوطن ، ومعنى الحاكم ، ومعنى الدستور ، عن الاطلاقات الجاهلية في تـفسيرها ، وعما بعد الإطلاق من اختلاف اجتهادات العـقـول . فالأمة الإسلامية قد حدد الله تعالى مقوماتها ، و جعل : " الجنسية فيها هي العقيدة . والوطن فيها هو دار الإسلام . والحاكم فيها هـو الله . والدستور فيها هو القـرآن .

هذا التصور الرفيع للدار و للجنسية و للقرابة هو الذي ينبغي أن يسيطر على قلوب أصحاب الدعوة إلى الله ، والذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث لا تختـلط به أوضار التصورات الجاهـلية الدخيلة ، ولا تتسرب إليه صور الشرك الخفية . الشرك بالأرض ، والشرك بالجنس ، والشرك بالقوم ، والشرك بالنسب ، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة "

وحمَلة الإسلام إنما ينطلقون بهذا المفهوم الإسلامي الواضح ، ويعلنونه ، دونما ملاطفة لأفكار الكـفـر الأرضية ، ولا مهادنة ، ولا محاولة استرضاء . وإنه لأمر جازم من الله لهم أن: { ادعـوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } .. " ولن يرضى الكافرون من المؤمنين أن يخلصوا دينهم لله وأن يدعوه وحده دون سواه ، ولا أمل في أن يرضوا عن هذا مهما لاطفوهم أو هادنوهم أو تـلمسوا رضاهـم بشتى الأساليب . فليمض المؤمنون في وجهتهم ، يدعون ربهم وحده ويخلصون له عـقـيدتهم ، ويصفون له قـلوبهم . ولا عليهم رضي الكافـرون أم سخطوا ، وماهـم يوماً براضين "

فما دامت هذه النتيجة حتمية ، وأن الكافرين لن يرضوا عن المؤمنين ، فليسلك الدعاة إذن ما يناسبها من مقدمات ترد على تمرد الكفر و رفضه الإيمان .

ولن يكون هذا الرد غير التميز ، و الانفصال عنه .

طالما أنه ليس هناك لقاء ، فإن المنطق يقتضي الانفصال إذن , كما فاصَـلَ النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش في العهد المكي، و كما فاصل كل القبائـل بعد الهجرة . ولم تكن تـلك المفاصلة النبوية الكريمة مجرد اضطرار لجأ إليه في حقبة تاريخية تبدو لنا آخذة دورها في تسلسل تاريخ الدعوة النبوية، و إنما كانت حقيقة إيمانية و دلالة نعمة ربانية ، من شأنها أن يلتـفـت لها المؤمنون .

وتـلمس هذا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكرهم بها، و يتخذها عاملاً تربوياً للذين معه ، فيقول لما صلى بهم يوماً صلاة العشاء قريباً من نصف الليل : ( أبشروا أن من نعمة الله عليكم أنه ليس من الناس أحد يصلي هذه الساعة غيركم ) , وذلك " قبل أن يـفشو الإسلام في الناس "  كما يقول الراوي .

إنه جعلها بشرى ونعمة ربانية، وكذلك تربى نفوس المؤمنين على معاني الاستعلاء ، وتوكيد إلحاحهم في تحدي الجاهـلية كلها مهما فشت وعمت وانتشرت وكثـر أصحابها , ومهما قـل عدد المسلمين وانحصروا في دويرة صغيرة ، كما كانوا في دويرة المدينة ومن حولهم هذه الجزيرة العربية الواسعة الأطراف ، الكثيرة القبائل .

والمس عظم أثـر هذه التربية ، وتحولها إصرارا وثباتاُ في الدين ، وتجديد عزم على المضي ، حين يقول من سمع هذه البشرى : " فرجعنا فرحين بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ... فتصور هذه الدويرة الإسلامية المتميزة في الجزيرة الكافرة . كانت هناك طليعة إسلامية " تـزاول نوعاً من العزلة من جانب ، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة " , وهي في الحقيقة استمرار للمفاصلة التي كانت في العهـد المكي ، فظهـرت في المدينة بصورة كاملة واضحة .

وما كانت نفوس المسلمين لتصبر في المدينة على لوازم هذه المفاصلة لو لم تـكن قد ربيـت قبل الهجرة تربية صلبة عميقة على أولوياتها ومقدماتها ، فيومها : " في مكة ، لم تـكن للإسلام شريعة ولا دولة ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة، كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها، وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين ".. كان " الإسلام هو تـلـك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين، هـو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادتـه وسلطانه وشرائعه ، والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبية المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع " , فلما تجلى هذا التميز بصورة أوضح في المدينة ، صار المجتمع الإسلامي مناراً واضحاً في تـلـك الصحراء ، يأوي إليه الهائم والمتشكك ، ومـن يحـتـدم في قلبه الصراع بين الإيمان والكـفـر الموروث .

فلما اتسع المجتمع الإسلامي ، وانتصر ، ودانت كل الجزيرة بدين الله : استـمرت هـذه الحاجة إلى مفاصلة بـقـايـا الجاهـلـيـة المـتـمـاثـلـة بـبـقـايـا الـنـفـاق واتباع الـشـهـوات .

وهي مفاصلة ثانية، واجبة أيضاً . فكما أن المفاصلة الأولى أفادت في إيجاد عزة الإيمان في نـفـوس المفاصلين، وفي جعل المدينة مناراً يأوي إليه الحائر ، فإن المفاصلة الثانية كانت ضرورية للحفاظ على نـقـاوة جهاز دولة الإسلام، المحافظ على سمات حـكـمـه وفـقهه وتربيته وفتوحة . ومن هنا دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هذه المفاصلة الثانية بعبارة جامعة رائعة فقال : (إن لله عباداً يميتون الباطل بهجره ، ويحيون الحق بذكره) .

وقـد استعمل كلمة الهجر للدلالة على المفاصلة التي نعنيها . وهذا يعني أن عنصر النفاق واتباع الشهوات كلما زاد في المجتمع، زادت هذه الحاجة إلى هذا النوع الثاني من المفاصلة، بعملية طردية، ليبقى الباطل باطلاً مشاراً إليه بأصبع الاتهام، و لئلا يحيـله التـقادم إلى حق موهـوم في ذهن الذين لا يعون ، فينطـلي زوره ، و ينسى الناس اعوجاجه ، و لئلا تستسيغه النفوس من بعد ، حين يطول الأمد .

و لذلك فإن الدعوة الإسلامية اليوم لا بد لها إزاء زيادة النفاق والفسق

واتباع الشهـوات في المجتمع الحاضر من هذه المفاصلة، و من هذا التميز ، بشكل واضح صريح ، لتبقى الصورة الإسلامية جلية واضحة بدورها ، يمكن أن ينظر إليها من يبتغي النظر إليها، ممن تحفزهم كلمات الدعاة لمحاولة اكتشاف أبعاد هذه الصورة ، و التـفـتـيـش عنها و تـلمس مثـل تـطـبـيـقـي لها .

و الحقيقة أنه وإن افـتـقـد الدعاة في هذا القرن صورة حكم إسلامي يصلح مثلاً لتطبيق الإسلام ، إلا أن هذا المثـل يمكن أن يتجلى في بعض أشخاص من الدعاة ، تتضح فيهم معاني الإسلام ، ويكتسبون من هيبته ، و يبلغون الذورة في الإيمان والتجرد وتطبيق السنة النبوية الشريفة . وهذا هو معنى ( القدوة ) في صورتها البسيطة .

إن وجود ( القدوة الإٍسلامية ) يعني وجود شخص يدرك الناظر إليه أنه مستـقـل في فكرتـه و عـقـيدته ، و سكناته و حركاتـه ، عما حوله ، منفصل عنهم ، تميزه الأبصار قبل المعاملة ، بما تعلوا وجهه من معالم السكينة والهيبة و الحزم التي شاء الله أن ينفرد بحيازتها المسلم دون غيره ، فيعوض بذلك عن صورة الحكم الإسلامي المفتـقـد ، ويكون بديلاً لها ، وبرهاناً على أن الإسلام قادر أن ينتج مثل هذه النماذج الإنسانية الرفيعة ، أو بالأحرى : يكون برهاناً على أن مثـل هذه النماذج لا ينتجها غير الإسلام .

وأبو القاسم الجنيد رحمه الله يعبر عن هذا الانفصال للقدوة الإسلامية بعبارة ( الحرية عما سوى الله ) ، أي ليس بينه وبين ما سوى الله رابط أو قيد أو نسب أو ميل أو رغبة، بل هي الحرية بمدلولها الذي يفهمه كل حر ، فيقول : " لا يكون العبد عبداً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً "  ويعبر مرة أخرى عن هذا الانفصال بأنه "عبودية الأحرار" أو " حرية العبيد" ، فيصوغ سطراً بليغاً رفيعاً يغني عن عشر مجلدات ، ويـقـول : " إنــك لا تصل إلى صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بـقـية " .

فلأن الإسلام كله عبودية لله تعالى ، فإن العبد التام العبودية الذي سماه الجنيد , هـو وحده الحر في هذا الوجود دون غيره من أسارى الشهوات واجتهادات العـقول القاصرة , وهذا التعبير الجميل ورثه الجنيد عن أحد أفاضل الزهاد العباد : الفضيل بن عياض رحمه الله ، إذ أبرز الفضيل بمقابل الحرية مما سوى الله : واجب المسلم في تجريد الربانية له واطراح كل ربانية لأحد من الخلق يريد أن يفرضها عليه بثمن مادي ، أو بالـقـسـر و الاكراه ، فيقول الفضيل : " والله ، ما صدق الله في عبوديته من لأحد من المخلوقين عليه ربانية "  . فالمسلم يفرد الله بالعبادة ، وإفراده بالعبادة يقتضي أن يعلن بصراحة ووضوح براءته مما يعبد الغير ، ومما يشرعون لأنـفسهم ، ويجهـر بذلك مفاصلاً ، كما فاصل نبي الله هود عليه السلام قومه بقوله : { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تـشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تُـنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هـو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستـقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ }

" إنها انتـفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم – وانتـفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقاً . وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتـقيان على وشيجة ، وقد انبتـّت بينهما وشيجة العقيدة . وهو يشهد الله على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم ، ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوهم ، كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نـفوره و خوفه أن يكون منهم . وذلك كله مع عزة الإيمان و استعلائه ، ومع ثـقـة الإيمان واطمئنانه ! وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى ، يبلغ بهم الجهل أن يعتـقـدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلاً فيهذي ، ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذياناً من أثر المس ! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثـقين بآلهتهم المفتـراه هذه الثـقة ، فيسفه عقيدتهم و يقرعهم عليها و يؤنبهم ، ثم يهيج صراوتهم بالتحدي لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم ، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم . إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد ، و لكن الدهشة تـزول عندما يتدبر العوامل و الأسباب .

إنه الإيمان ، و الثـقة ، و الاطمئنان . و الإيمان بالله ، و الـثـقـة بوعده ، و الاطمئنان إلى نصره ، الإيمان الذي يخالط الـقـلب ، فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا الـقـلـب لا يشك فيها لحظة ، لأنها ملء يديه ، وملء قلبه الذي بين جنبيه ، وليست وعداً للمستـقبـل في ضمير الغيب ، إنما هي حاضر تتملاه العين و الـقـلب "

{ إن ربي على صراط مستـقيم } ..

" فهي الـقوة والاستـقامة والتصميم . وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي . إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود عليه السلام في نـفسه من ربه . أنه يجد هذه الحقيقة واضحة . إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر : { ما من دابة إلا هـو آخذ بناصيتها } ، وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تـلـك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها و يقهرها بقوتـه قهـراً ، فما خوفه من هذه الدواب و ما احتـفـاله بها ، وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه ؟ وما بقاؤه فيها وقـد اخـتـلف طريقها عن طريقه ؟ إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة نـفـسه ، لا تدع في قلبه مجالاً للشك في عاقبة أمره , ولا مجالاً للتـردد عن المضي في طريقه . إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبداً "  .

وقد فقه الإمام البنا رحمه الله هذه النظرية في المفاصلة ، فنادى بوجوب تربية النشء وفق معانيها ، وأوضح أن مستـقبل الإسلام إنما يعتمد على " هذا النشء الجديد ، فأحسنوا دعوته ، وجدوا في تكوينه ، وعلموه استـقلال النفس والقـلـب ، واستـقلال الفـكـر والعـقـل ، واستـقلال الجهاد و العمل , واملأوا روحه الوثابة بجلال الإسلام وروعة القرآن ، و جندوه تحت لواء محمد ورايته ، و سترون منه في القريب الحاكم المسلم الذي يجاهد نفسه و يسعد غيره " 156 ... فهو قد عبر عن المفاصلة بالاستـقلال ، كما عبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنها بالهجر . فاستـقلال النفس والقلب هو المفاصلة الشعورية في الضمير ، و العزة والاستعلاء .

و استغلال الفكر هو عدم خلط الشريعة بالتصورات الأرضية المبتدعة التي أضلت الأحزاب . واستـقلال العمل هو التميز في الصف ، و تـرك الأحلاف . وكما أنها مهمة هؤلاء الدعاة في تـربية النشء ، فإنها مهمتهم في وجوب الانتباه لنـفـوسهم ، والثبات على هذه المفاصلة . أو كما قال الإمام : " لا تصغروا في أنفسكم ، فتـقـيسوا أنفسكم بغيركم ، أو تـسلكوا في دعوتكم سبيلاً غير سبيل المؤمنين ، أو توازنوا بين دعوتكم التي تتخذ نورها من نور الله ، و منهاجها من سنة رسوله ، بغيرها من الدعـوات التي تخلقها الضرورات ، و تذهب بها الحوادث و الأيام "  .

ومن مكملات ذلك و ضرورياته حفظ صفاء الابتداء و نقاوته ، وكما يجب على الداعية أن يحفظ لمن يدعوهم الهمة ، و يسيرهم مع الهمم العالية ، فإن عليه أن يحفظ لهم صفاء الابتداء ، فإن الأيام الأولى للسير في طريق الدعوة تحسم مدى الصفاء مثلما تحسم منزلة الهمة .

إن من يفتح عينه على المفاهيم الإسلامية النقية المستمدة من القرآن       والسنة فحسب غير المشوبة بترهات غير إسلامية فإنه يبدأ وينشأ ويشب و يشيب و يموت على هذه المفاهيم ، ومن سقي المخاليط ذات الشوائب صعبت عليه التـنقية بعد .

و لقد وعى أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصر آباذي المتوفي سنة 367 هـ هذا المعنى أروع الوعي فقال :

" ما ضل أحد في هذا الطريق إلا بـفساد الابتداء , فإن فساد الابتداء يؤثر في الانتهاء " .

فأحسن البداية و أتـقنها يا داعية الإسلام .

    من كتاب "الرقائق" للأستاذ محمد أحمد الراشد.