لئن كان الدعاة إلى الله قد فقهـوا طريق الاستـدراك، ورفضوا الانصياع للفساد الذي استـشرى، وتمردوا على عملية التـرويض، وبدءوا جهود تـثبيت وتربية لأولي الفطرة الصحيحة ، فإن غيرهم بات يتألم لواقع المسلمين و يتـأوه ، ولا يعدو إبداء الحزن، وقبع في بيته أو مسجده، يـلـفه اليأس ، تاركاً دعاة الإسلام وحدهم في المعركة ، يظن أنه بحزنه قد أبرأ ذمتـه ، بل ربما يظن أنه قد كسب المناقـب .

وليس الأمر كما ظن، وإن اقترن بحزنه ما يثاب عليه ويؤجر ، فإن المسلم الذي يبغي درجات الكمال يحزن لواقع المسلمين، لكنه يترك بيته وراءه ظهرياً، و يتصدى للناس، واعظاً وناصحاً ومربياً، وخائضاً بهم دروب الجهـاد .

قال ابن تيمية رحمة الله : " قد يـقـترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه ، فيكون محموداً من تـلـك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه ، وعلى مصائب المسلمين عموماً ، فهذا يثاب على مافي قلبه ، من حب الخير وبغض الشر ، وتوابع ذلك ، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى تـرك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة ، نهي عنه ، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه "

فافهم هذا يا من تتمنى أن يغيـر الله الأحوال بلا عمل منك ومن أمثالك .

وحولك من يعمل و يناديك ...

أيها المشدود في تيه الأماني

خفف الآهات دع عنك التواني

لا تبالي إن بغت كف الزمان

واعتصم بالله ذا أسمى وأفضل

أنت تدري أيها الحيـران عنّا

كيف فوق الشمس أزماناً حَللنا

أيها المذهول لا تيأس فإنا

لبناء الأمة العصماء نعمل

فكن من العاملين أيها المبهـور .

إنك إن كنت تعرف أنّا خيـر من يعمل ، و أطهـر من يتصدى ، فلم تهـرب منا ؟

" إن الحسرة والتألم وتصعيد الزفرات ليست سوى وسيلة سلبية لا تجرح قوى الباطل - بل لا تخدشها - ، وهي لا بأس بها لكنها تـنقلب إلى أمر بالغ الخطورة إذا لم يعقبها عمل إيجابي مثمر ، إذ تـكون وسيلة لامتصاص النقمة على الأوضاع الفاسدة ، ومن ثم الركون إليها ، وعلى أحسن الفروض: استمرار هذه النقمة، ولكن بشكل جامد لا حياة فيه يؤدي إلى شلـل الحركة. وليس أفضل لقوى الباطل من هذا الوضع "

وإنما الصواب في كل حين أن تسلك طريق الهمة، وهـو الطريق الذي وصفه قدوة العراق آخر الزمان العباسي ، الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله ، فكان ينادي أهل بغداد بصوته الهادر أن : " سيروا مع الهمم العالية "

لا تتواروا ولا تـنسحبوا ، بل سيروا مع الهمم العالية .

ولا زال هذا الطريق هـو الطريق المعبد الوحيد في خارطتنا .

أما الجبن، والانـزواء، والتأوه، فصحارى مهلكة .

وجرب غيرك الأعوان، وأعطاك النتيجة، فقال :

لي معينان : همة واعتـزام .

لم يجد غيرهما . و خانته بـقـية الأعـوان .

وعونك المخلص ما أوصلك إلى اللذة الصادقة في الحياة . ومغشوش واهم ذاك الذي يظن اللذة فحسب لذة الـقـرب من الزوجة والأولاد والأموال ونيل الترقيات الوظيفية .

و إنما السعادة في رضا الله .

و إنما اللذة لذة البذل والفداء .

و نداء الشيخ عبد القادر يأتينا عبر الـقـرون :

" أنتم غـفـل عما القوم فيه ، تواصلون العَناء في الكد على النفوس التي هي عدوتـكم . ترضون أزواجكم بسخط ربكم عز وجل . كثير من الخلق يـقـدمون رضا أزواجهـم وأولادهم على رضا الحق عز وجل " .

وما بغير البذل ينطق قاموسنا ، " لكن يغلط الجفاة في مسمى الحياة ، حيث يظنونها التـنعم في أنواع المآكل و المشارب و الملابس و المناكح ، أو لذة الرياسة و المال و قهر الأعداء والتفنن بأنواع الشهوات ، ولا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم ، بل وقد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان؛ فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع و الدواب و الأنعام فذلك ممن ينادي عليه من مكان بعيد . ولكن أين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلى عن الأبناء والنساء والأوطان والأموال والإخوان والمساكـن ، ورضي بتركها كلها والخروج منها رأساً , وعرض نـفسه لأنواع المكاره والمشاق ، وهو متحل بهذا منشرح الصدر به ، يطيب له هجر ابنه و أبيه و صاحبته و أخيه لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، حتى أن أحدهم ليتـلقى الرمح بصدره و يقول : فزت و رب الكعبة . و يستطيل الآخر حياته حتى يـلـقي قوتـه من يده و يـقول : إنها لحياة طويلة إن صبرت حتى آكلها ، ثم يـتـقـدم إلى الموت فرحاً مسروراً " .

هذا ما نعرفه من شأن الداعية . لا يكون كامل العبودية لله حتى يصل إلى مثـل حال إبراهيم عليه السلام ، لما استسلم وأطاع ووضع السكين على حلق ابنه ....

و بهذا وصفه إقبال ..

ليس يدنو الخوف منه أبداً

ليس غير الله يخشى أحداً

لحنه في القـلب ناراً اشتعلاً

من قيود الزوج والولد خلا

معرض عما سوى الله الأحد

يضع السكين في حلق الولد

إن من واجبات المسلم إزاء محاولة استـئناف الحياة الإسلامية وإرجاع الإسلام إلى الهيمنة من بعد الحدث الهائل في تـنحيته هي واجبات واضحة بينة ، وأكثر من نراه من المسلمين المتحسرين أصحاب الأماني المتأوهين " يكون عالماً بها ، ولا تـنهض همتـه إليها ، فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً ، و قلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً ، قد أسام نفسه مع الأنعام ، راعياً مع الهمل ، واستطاب لقيمات الراحة والبطالة ، واستلان فراش العجز والكسل ، لا كمن رفع له علم فشمر إليه ، وبورك له في تـفرده في طريق طلبه ، فلزمه و استـقام عليه ، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله ، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافـقه في سبيله "

فكذلك البرهان الذي يعطيه المسلم علامة لصدقة .

و كذلك حقاً تـفـعـل الأشواق حين تصدق . إ

إن صاحبها حينئذ يأبى إلا الهجرة والانضمام إلى القافلة .

ويذر كل رفيق يثبطه ويزين له إيثار السلامة، إلا داعية يبثه همه، ويتعاون معه على السير في طريق الجهاد ، ويعلمه علم البذل و فقه الدعوة والتبشير .

فحيهلا إن كنت ذا همة فـقـد

حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا

ولا تـنـتـظر بـالسيـر رفـقـة قاعد

و دعه فـإن العزم يـكـفـيك حاملا

فينتـفض ، ويهجر كل قاعد ، ويهاجر مع المهاجرين إلى الله ..... ويخطب به ابن تيمية فيقول ، ويصف له الطريق و اضحاً : " الحرية حرية القـلب ، والعبودية عبودية الـقـلـب "

فـيـطرح أغلال الشهوات وحب الأموال عن قلبه ويصبح حراً , ويعود يأبى المنخفض الخبت ، ويرفض أن تواريه الوديان ، ويبتغي المرتفع العالي .

ومن أراد ذلك ارتـقى سلم الارتـفاع والسمو : الجهاد ، وفـقه الدعوة .

قال تعالى : { يـرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } .

" وقـد أخبـر سبحانه في كتابه بـرفع الدرجات في أربعة مواضع . أحدها : هذا . والثاني قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . والثالث قوله تعالى : { ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى } . والرابع قوله تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجـراً عظيماً درجات منه ومغـفرة و رحمة } .

فهذه أربعة مواضع ، في ثلاثة منها : الرفعة بالدرجات لأهل الايمان الذي هو العلم النافع و العمل الصالح . و الرابع : الرفعة بالجهاد ، فعادت رفعة الدرجات كلها إلى العلم و الجهاد " 136

ولا تصل إلى هذا العلم وهذا الجهاد إلا بهمة ، ومن ثم كانت الهمة باب الدخول ، فمن امتلكها لان له كل صعب ، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان .. كما قال إقبال :

همم الأحرار تحيي الرمما

نفخة الأبرار تحيي الأمما

و بالمقابـل جعل رحمه الله : كل داء في سقوط الهمم .

و كذلك أمر المسلمين حين ضاق اليوم ، لا يفـرجه ويـوسعه إلا أصحاب الهمم العالية فحسب . ولذلك كان من تعاليم الإمام حسن البنا: " أن تستصحب دائماً نية الجهاد وحب الشهادة، وأن تستعد لذلك ما وسعك الاستعداد " , " و أن تعتبر نفسك دائماً جندياً في الثكنة تـنتظر الأمر "

وإنه لمعنى يفقهه من ذاق العلو ، محجوب عمن يطلب السلامة .

قلت للـصقـر وهـو في الجو عال :

اهـبط الأرض فـالهـواء جديـب

قال لي الصقر : في جناحي وعزمي

وعنان السماء مرعى خصيب

وهذا المرعى لا شـك يجهـلـه الأرضـيـون .. !

قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انـفروا في سبيل الله اثـاقـلتـم إلى الأرض } .

" إنها ثـِقـلة الأرض، ومطامع الأرض، و تصورات الأرض. ثـِقـلة الخوف على الحياة والخوف على المال، والخوف على اللـذائذ والمصالح والمتاع . ثـقـلة الدعة والراحة والاستـقـرار . ثـقـلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . ثـقـلة اللحم والدم والتـراب . والتعبير يـلـقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه : اثاقلتم - وهذه قراءة حفص , وهي أبلغ تصويراً من القراءات التي ورد فيها : تثاقلتم - وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثـقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقـط منهم في ثـقـل ، ويـلقيها بمعنى ألفاظه { اثاقلتم إلى الأرض } ومالها من جاذبية تـشد إلى أسفل و تـقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .

إن النفرة للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض ، وارتـفاع على ثـقـلة اللحم والدم ، وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان و تغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ، وتطلع إلى الخـلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } , وما يحجم ذو عقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله إلا و في هـذه العقيدة دخـل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من مات ولم يغـز ولم يحدث نفسه بغـزو مات على شعبة من شعب النفاق ) .

فالنفاق – وهـو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال – وهـو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الـفـقـر ، والآجال بيد الله ، والرزق من عند الله ، { وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } .

و من ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد : { إلا تـنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، والله على كل شيء قديـر } . والخطاب لقوم معينين في موقف معين ، ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله . والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده ، فهـو عذاب الدنيا . عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح ، والغلبة عليهم للأعداء ، والحرمان من الخيرات و استغلالها للمعادين ، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس و الأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح و الجهاد ، و يقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تـتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء " .

لذلك رأى المودودي ضرورة الصراحة , فحسم أمر الهمة بألفاظ يظن القارئ أنها خشنة فقال : ( من دواعي الأسف أن الذين عندهم نصيب من القوى الفكرية و القلبية من النوع الأعلى من أفراد أمتـنا هم مولعون بإحراز الترقيات الدنيوية ، جاهدون في سبيلها ليل نهار ، ولا يقبـلون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتـفعة , و ما بلغوا من تعـلقهم بالدعوة إلى الاستعـداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم ، بل ولا بمجرد إمكانيات منافعهم . فإذا كنتم ترجون ، معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية ، أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل غاياتهم الباطلة ، فما ذلك إلا حماقة ) .

وبعد .. فإنا لا زلنا نعطيك جمهرة من أبلغ القول وأحسن الكلام , وقـد قال الزاهد الثـقة يحيى بن معاذ رحمه الله إن "الكلام الحسن حسن ، وأحسن من الكلام : معناه وأحسن من معناه : استعماله" فقم إلى استعماله يرحمك الله :

وخل الهوينا للضعيف ولا تـكن **** نؤوما فإن الحزم ليس بنائم

وهذه كتيبة الحق قد دنت منك في سيرها بنشيد هادر :

قد نهضنا للمعالي و مضى عنا الجمود

و رسمناها خطى للعز و النصر تـقود

فتـقـدم يا أخا الإسلام قد سار الجنود

و مضوا للمجد إن المجد بالعزم يعود

و كأنك قد أصغيت، و استدركت قعودك ، و عـفت مساعيك لإحراز الترقيات الدنيوية جانباً ، وآمنت بأنها آتية إليك دونما جهد وحرص . ثم كأنك أخذت مكانك في الكتيبة السائرة ، و بدأت تـنشدهم مبايعاً :

مهما عتا الأقـزام والأعبد

و لوحوا بالـقـيد أو هددوا

عن نصرة الإسلام هل أقعد

لا ، سوف أبقى دائماً أنشد

بفجره لا بد يأتي الغد

    من كتاب "الرقائق" للأستاذ محمد أحمد الراشد.