د. حلمي القاعود

لقد أزعج خصوم الإسلام أن يكتب العقاد، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم عن الإسلام والمسلمين، وعدّوا ذلك رجعية واستسلاماً لما يسمونه بالتيار المحافظ، ونكوصاً عن التقدمية أو الاستنارة التي حكمت مسيرتهم قبل كتاباتهم الإسلامية!

مثل هذا التطاول القبيح يقدمه الإعلام ويحتفي به، ويتيح لشخص مثل أسامة أنور عكاشة الذي تطاول على الصحابة رضوان الله عليهم، أن يعرض على شاشاته وموجاته الإذاعية، أكثر من خمسين مسلسلاً، وتمثيلية، وينشر عدداً غير قليل من الكتب والروايات، ثم يواليه بالجوائز، ويضفي عليه في وسائط الدعاية من الصفات والنعوت؛ ما يضعه في خانة التقديس ويرفعه إلى عنان السماء في حياته وبعد موته.

قس على ذلك الذي فاخر أنه شرب من الحشيش أكثر مما شربه المصريون جميعاً، متصوراً أن المخدر هو الذي يمنحه فرصة الإبداع والتألق، ويضطر الموقع الإلكتروني الذي نشر هذا الكلام الفاضح تحت ضغط الاستنكار العام إلى حذفه، وكأنه لم يحدث، لأن صاحبه يجيد الحديث عن التطرف والإرهاب الإسلامي، ويلمّع زعماء الاستبداد والهزائم في رواياته وكتاباته، ومثله من ينتقد قادة الإسلام المنتصرين، ويطالب بعدم تدريس سيرتهم وانتصاراتهم لأنهم سفّاحون، هل كان خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعقبة بن نافع كذلك؟

في زمن الحقبة الاشتراكية انتقد كاتب صحفي طائفي شهير تدريس عبقريات العقاد في المرحلة الثانوية، وخاصة عبقرية خالد بن الوليد، وطالب بتدريس عبقرية نابليون بدلاً منها، ولم يقل: إن نابليون السفاح قتل من شعبنا ثلاثمائة ألف مصري في حملته على مصر والشام (1798- 1801م)، أي ما يقرب من سُبْع الشعب المصري، وكان تعداده آنئذ مليونين ومائة ألف نسمة، ودخلت خيله الأزهر، وتغوّط جنده في محرابه! الطائفي الشهير الراحل يرفض تعليم أولادنا سيرة من حرّرونا من قبضة الغزاة، ويقبل أن نعلمهم سيرة من قهرونا وأذلونا، واستباحوا دماءنا ونهبوا ثرواتنا! أمثل هؤلاء ينهضون بالثقافة والأدب؟!

في العقود الأخيرة بعد انهيار التعليم والثقافة والفنون، أضحى جواز المرور إلى الإعلام والمشهد الثقافي بصفة عامة استباحة الإسلام وانتقاد تشريعاته، والدعوة المباشرة وغير المباشرة إلى إحلال الثقافة الغربية والمفاهيم اليهودية محل تصورات الإسلام وقيمه، تحت دعاوى فضفاضة مثل التنوير والتقدم والحداثة، ومعظم أعلامها من اليهود، وبالطبع فالمفاهيم العلمية لهذه الدعاوى أو المصطلحات الدقيقة التي أرادوها تقودنا إلى عالم مضاد للإسلام وتصوراته ومعطياته.

كانت هناك نتائج سلبية للغاية لتصدّر أشباه الأدباء والكتاب للمشهد الثقافي إعلامياً، أبرزها هبوط المستوى الأدبي ووصوله إلى درك سحيق، لأن السادة المتصدرين لا يملك بعضهم أبسط الأدوات الفنية (الإملاء، النحو، الصرف، التراكيب..)، ثم إنهم لديهم الجرأة ليتحدثوا عن الثوابت الدينية والقومية بمنتهى الاستهانة، كما رأينا من ينفي حدوث الإسراء والمعراج، ومن يهوّن من قيمة المسجد الأقصى، أو يسند ملكية القدس لليهود، أو يشيد باليهودي الطيب الذكي الذي كان جاراً طيباً ويملك مشاعر إنسانية وعواطف بشرية، قبل هروبه من البلد الذي رباه، وخانه بالانضمام لجيش الدفاع، ومقاتلة شعبه القديم، فضلاً عن جرائمه ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وسرقته لأرضهم وثرواتهم وتراثهم..

يتداخل المجال الثقافي مع المجال الإعلامي في كثير من الخصائص، وأبرزها الخروج من دائرة التصور الإسلامي ومعطياته، وهذا الخروج هو علامة الجودة الأدبية، والطريق إلى الشهرة، وغنائم الثقافة الرسمية وغير الرسمية.

مثلاً تطرق الطبيب الروائي الراحل أحمد خالد توفيق في آخر حوار له مع الصحافة (مارس 2018)، إلى نصيحة زميله الطبيب الروائي علاء الأسواني من أجل الوصول إلى العالمية، فقد نصحه أن يكتب قصة عن علاقة سحاقية بين منتقّبتين! وإحداهما تتزوج رجلاً فظاً، ويكتشف أنها غير مختونة فيجري لها عملية ختان تموت على أثرها، وزعم الأسواني أن هذه الرواية ستوزع 60 مليون نسخة وتحتل غلاف مجلة "نيوزويك"! وكان رد فعل أحمد خالد توفيق على هذه النصيحة ساخراً: أنه لو كتب هذه القصة فإنه يخون قاعدة ما يطلبه المستمعون، ويبيع كثيراً وينجح في الغرب! (جريدة "فيتو" الإلكترونية، الثلاثاء 3 أبريل 2018).

والمشكل الأخطر أن القوم عندما يتناولون مفاهيم الإسلام وتشريعاته يحرصون على تزويرها، والنيل منها، ويتحدثون كأن كلامهم وحي منزل ينبغي على الكتَّاب والأدباء أن يصدقوه ويتبعوه، وإلا حقّت عليهم لعنة الثقافة الرسمية بالحرمان، والخروج من الجنة، أو الحظيرة الثقافية التي تحدث عنها وزير أسبق للثقافة!

وإذا كانت نصيحة علاء الأسواني، لأحمد خالد توفيق بالكتابة عن منقّبتين شاذّتين ليحقق توزيعاً كبيراً لكتبه قد لقيت استهجاناً ساخراً، فإن السادة الكتَّاب والنقاد الذين يزعمون الاستنارة والتقدمية يحرصون على الكتابة عن الأعمال التي لا تحمل مضامين راقية أو سامية، ويقدمونها بإلحاح للناس، ويركزون على الأعمال التي تقدم ما هو شاذّ وإباحي وإلحادي، ولك أن تقرأ مثلاً عشرات المقالات والدراسات التي تشيد بالرواية المقزّزة المسماة "الخبز الحافي" للمغربي محمد شكري، والروايات التي تتناول الجنس بصورة فجة، سواء كانت أجنبية أو عربية، والنماذج كثيرة.

أيضاً يحتفون بالنماذج التي تمثل قلقاً عقدياً أو إيمانياً، بوصفها المثل الأعلى للأدب والإبداع، وانظر ذلك الاهتمام الغبي العنيد الذي تجاوز الحدود برواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، مع أنها من رواياته الضعيفة فنياً، فضلاً عن كونها تحتذي تاريخ الأنبياء بطريقة غير موفقة، وغير مقبولة، وقد كتب أفضل منها مثل "ملحمة الحرافيش".

ولعل القراء يذكرون ما قام به السادة سدنة الثقافة الرسمية من دفاع غير كريم عن رواية الطائفي السوري حيدر حيدر الذي يدعي الانتماء للشيوعية، حين أصدر روايته "وليمة لأعشاب البحر" بعد أن طبعوها على حساب الفقراء المصريين في هيئة قصور الثقافة، لقد ضمنها إساءة للذات الإلهية، والأنبياء والقرآن الكريم، فضلاً عن سياقات مخالفة للمعتقدات الإسلامية والعادات الاجتماعية المستقرة في الوجدان الشعبي.

وفي المقابل، لا يشير هؤلاء إلى روايات محمد عبدالحليم عبدالله، وعلي أحمد باكثير، ومحمود تيمور، وعبدالحميد جودة السحار، ومحمد سعيد العريان، ونجيب الكيلاني، وثروت أباظة، وأمثالهم! ويقفون موقفاً معادياً لمن يشمّون فيه رائحة التصور الإسلامي، بل يحولون بينه وبين نشر خبر عن أحد إصداراته في سطرين بإحدى الصحف اليومية أو المجلات الأسبوعية!

والغريب أنهم يصدعون رؤوسنا بالحديث عن التسامح وقبول الآخر والمواطنة وحرية التعبير والتفكير، ولكنهم لا يتسامحون مع المسلم أو يقبلونه، ولا يسمحون له أن يكون مواطناً يشاركهم الوطن!

ولأن القوم غير مؤهلين للحديث في قضايا الإسلام والتشريع، فإنهم يقعون في أخطاء فادحة، يصرّون عليها، إصراراً دوجمائياً، ومن ذلك على سبيل المثال ما يراه بعضهم في تشريعات الجهاد في الإسلام، ويحكم عليها بالتعبير عن فلسفة ظالمة تدعو إلى قتال الآخرين حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويدعي أن المسلمين نشروا الإسلام بالسيف فاستولوا على أراضي غيرهم وشعوبه، ويصل إلى نتيجة تقول في جناس ناقص: "اللي نشروه بالسيف هنحطمه بالفيس"؛ أي إن الإسلام الذي انتشر بالسيف سنحطمه أو نمحوه بـ"الفيسبوك" والكتابة. (الطبيب خالد منتصر في شريط نشر بتاريخ 6/ 4/ 2017، وأعاد نشره رفيقه إسلام البحيري على صفحته المسماة "ثورة التنوير، في 16/ 11/ 2019).

لقد اعتمد المذكور في تجريم التشريعات الإسلامية وإثبات عدوانية الإسلام مستدلاً بقوله تعالى: (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (التوبة: 5)، وقوله تعالى: ‏‏(قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29)، لقد تجاهل مناسبة نزول الآيتين، وهي قتال المشركين الذين تحرشوا بالمسلمين للقضاء عليهم، والروم الذين احتشدوا للعدوان على المسلمين وسحقهم، وهو ما يستلزم في كل الملل والنحل والقوميات والوطنيات المواجهة الصريحة القوية من أجل رد العدوان، وتحقيق السلام.

نسي صاحبنا الآيات الأخرى التي ترفض الاعتداء، أو المبالغة في العقوبة، وتدعو إلى الجنوح إلى السلم، قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، ‏‏(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) (النحل: 126)، (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) (الأنفال: 61)، وهناك آيات تحث على احترام المعاهدات، وإعطاء المهلة للعدو كي يتراجع ويلجأ للمصالحة، ولكن الطبيب المحترم يأخذ بعض الكتاب دون بعضه الآخر، ويحكم بعدوانية الإسلام ووحشيته!