رابعاً: الحلم والرفق

واستيعاب الناس يحتاج من الداعية إلى أن يكون حليماً عليهم، رفيقاً بهم؛ فالناس يمقتون العنف وأصحابه، وينفرون من القسوة وأهلها، وصدق الله العظيم حيث يقول:"ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" .

فالداعية لا تكون دعوته بحمل الأفكار والنظريات المجردة إلى من حوله، قبلوها أم رفضوها، وإنما بأن يعيش هذه الأفكار معهم، ويترجمها لهم على أرض الواقع أفعالاً وأخلاقاً وممارسات ..

والداعية لا تكون دعوته بمفاصلة الناس، ولإقامة الحجة عليهم، وإنما بأخذ كل الأسباب التي تؤدى إلى هدايتهم ..

فهو من موقع الحب لهم، والغيرة عليهم، والرحمة بهم، يكابد من أجل استنقاذهم من حمأة الجاهلية وشقوتها إلى نعيم الإسلام؛ ولذلك فهو لا يسارع إلى مدابرتهم ومقاطعتهم ومفاصلتهم، وهذا كله يحتاج منه إلى حلم ورفق ..

إن على الداعية أن يعتبر نفسه مربياً للناس ومعلماً لهم، وإن عليه ليكون ناجحاً في تربيته وتعليمه أن لا يعاملهم كأنداد، وأن لا يتعامل معهم كند، وهو إن فعل ذلك أصبح مثلهم، وفقد عنصر القوامة عليهم؛ فالداعية مَعْنِيّ أولاً وقبل كل الناس بقوله تعالى:" ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم " .

والداعية معْنِيّ قبل غيره بقوله تعالى: " الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" .

ومن أولى من الداعية بتحقيق قوله تعالى: " ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة" وقوله: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " .

والداعية الأول صلى الله عليه وسلم كان أحلم الناس، وأرفق الناس، وهذا ما فتح قلوب الناس له، وجعلهم يدخلون في دين الله أفواجا ..

وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بأقواله وأفعاله الحلم على الناس والرفق بهم: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((إن الله يحب الرفق في الأمر كله ))

((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق مالا يعطى على العنف وما لا يعطى على سواه)).

((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه )).

((من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير ))

(( ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات.. قالوا: نعم يا رسول الله . قال تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطى من حرمك، وتصل من قطعك )).

(( وجبت محبة الله على من أغضب فحلم ))

أما أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فكثيرة في ذلك :

-  عن أنس رضى الله عنه قال: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك .. فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء .

- وكان ليهودي اسمه (زيد بن سعنة) دين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاث جاء إلى رسول الله وهو في نفر من أصحابه فأخذ بمجامع قميصه وردائه، وقال: يا محمد ألا تقضينى حقي؟ فوالله ما علمتم بنى عبد المطلب إلا مطلاً ؛ فغضب عمر وقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى ؟ فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك.. وكان رسول الله ينظر بسكون وتؤدة فقال: يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، ثم أمره أن يعطيه حقه مع زيادة عشرين صاعاً من تمر؛ فلما سأل اليهودي عن سبب هذه الزيارة قال له عمر : أمرني رسول الله أن أزيدك مكان ما رعتك. عندها قال اليهودي: يا عمر ، لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرها منه: يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد اختبرتهما فأشهدك يا عمر أنى قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، وأشهدك أن شطر مالي صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ،ولقد أسلم هذا اليهودي، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة ثم استشهد في غزوة تبوك .

-  ومما يروى عن الإمام الشهيد حسن البنا أنه قال : (( كونوا كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بالثمر )) .

منقول بتصرف من كتاب "الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية " للدكتور فتحي يكن رحمه الله .