ننقل بتصرف كلام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  فيقول:

الحركة الإسلامية والأقليات العرقية والدينية

ومما ينبغي على الحركة أن تحسمه: موقفها من الأقليات الدينية والعرقية في وطننا العربي والإسلامي.
أما الأقليات العرقية فلا تكون مشكلة في ظل النظام الإسلامي الذي تدعو إليه؛ فالإسلام يستوعب العناصر المختلفة، ويضمها في رحابه في ظل العقيدة الواحدة والقبلة الواحدة، والأخوة الواشجة.
فالمسلمون ـ في نظر الإسلام ـ أمة واحدة، أيا كانت عروقهم وألوانهم ولغاتهم وأوطانهم، عربا كانوا أو عجما، أو بربرا أو أكرادا، أو أتراكا أو هنودا، أو أي جنس كانوا، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، وهم كما وصفهم الله تعالى بقوله (إنما المؤمنون أخوة) (سورة الحجرات: 10).
ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات: 13).
ومكانة سيدنا سلمان الفارسي، وسيدنا بلال الحبشي وسيدنا صهيب الرومي لدى المسلمين في كل العصور، لا تخفى على أحد. ومكانة العلماء من الموالي الذين خدموا الإسلام والعربية، لا يجادل فيها دارس لتاريخ الإسلام، من أمثال الحسن البصري، وابن سيرين، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي حنيفة، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وسيبويه وغيرهم من الأئمة الأعلام، وعباقرة الإسلام.
وهؤلاء وإن كانوا في الأصل عجما، فقد عربهم الإسلام حين عرب ألسنتهم، فتكلموا، وكتبوا، وصنفوا بلغة القرآن، وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن عساكر "ألا إن العربية من أحدكم ليست بأب ولا بأم، ولكن العربية اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي".
ومن لم يعرب الإسلام لسانه من المسلمين الأكراد والبربر والعجم، والماليزيين وغيرهم، فقد عرب فكره وقلبه، عن طريق الثقافة الإسلامية، بل عن طريق الإسلام نفسه، الذي حمله العرب إلى قومهم من قديم، وهداهم الله بهم إلى الصراط المستقيم وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
فكل مسلم يحب لغة العرب؛ لأنها لغة القرآن والسنة والعبادة، ويحب أرض العرب، لأن فيها المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحب العرب أنفسهم؛ لأنهم عصبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصبة الإسلام، وحملته إلى العالم، ولهذا جاء في الأثر: إذا عز العرب عز الإسلام، وإذا ذل العرب ذل الإسلام!
لا توجد إذن مشكلة عرقية في إطار النظرة الإسلامية، بل هي العلاج الفذ لها.

أما إذا نادى العرب بقومية عربية مفصولة عن الإسلام، فسينادي الأكراد بقومية كردية، وينادي البربر بقومية بربرية، وينادي الأتراك بقومية طورانية، وهكذا تتمزق الأمة الواحدة، بل القطر الواحد بين هذه النزعات العصبية التي تميزت بها الجاهلية، واستبدل بها الإسلام الأخوة الإسلامية، وبرئ الرسول الكريم من كل من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية، أو مات على عصبية.

أما المشكلة التي يجب أن تعالج هنا فهي مشكلة الأقليات الدينية، أو ما سميناه في دراسة لنا "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي".
إن هذه القضية يجب أن تحل في ضوء المصارحة والمكاشفة بالحقائق لا بالمراوغة والنفاق السياسي.

وقد كتبت عن موقف الحل الإسلامي من هذه الأقليات في الجزء الثالث من (حتمية الحل الإسلامي)، ولا أستطيع أن أعيد هنا ما كتبته هناك.

وكل ما يمكن قوله هنا يتلخص في النقاط التالية:
لا وجه لدعوى بعض الناس ـ وجلهم من العلمانيين الذي لا يوالون الإسلام ولا المسيحية: أن الاتجاه إلى الحل الإسلامي والشرع الإسلامي ينافي مبدأ الحرية لغير المسلمين، وهو مبدأ مقرر دوليا وإسلاميا، فقد نسوا أو تناسوا أمرا أهم وأخطر، هو أن الإعراض عن الشرع الإسلامي والحل الإسلامي من أجل غير المسلمين ـ وهم أقلية ـ ينافي مبدأ الحرية للمسلمين في العمل بما يوجبه عليهم دينهم، وهم أكثرية.
وإذا تعارض حق الأقلية وحق الأكثرية فأيهما نقدم؟
إن منطق الديمقراطية ـ التي يؤمنون بها ويدعون إليها ـ أن يقدم حق الأكثرية على حق الأقلية.
هذا هو السائد في كل أقطار الدنيا، فليس هناك نظام يرضى عنه كل الناس، فالناس خلقوا متفاوتين مختلفين. وإنما بحسب نظام ما أن ينال قبول الأكثرية ورضاهم، بشرط ألا يحيف على الأقلين ويظلمهم ويعتدي على حرماتهم، وليس على المسيحيين ولا غيرهم بأس ولا حرج أن يتنازلوا عن حقهم لمواطنيهم المسلمين ليحكموا أنفسهم بدينهم، وينفذوا شريعة ربهم حتى يرضى الله عنهم.
ولو لم تفعل الأقلية الدينية ذلك، وتمسكت بأن تنبذ الأكثرية ما تعتقده دينا يعاقب الله على تركه بالنار، لكان معنى هذا أن تفرض الأقلية ديكتاتورية على الأكثرية، وأن يتحكم مثلا ثلاثة ملايين أو أقل في أربعين مليونا أو أكثر. وهذا ما لا يقبله منطق ديني ولا علماني.
وهذا على تسليمنا بأن هناك تعارضا بين حق الأكثرية المسلمة وحق الأقلية غير المسلمة.
والواقع أنه لا تعارض بينهما.
فالمسيحي الذي يقبل أن يحكم حكما علمانيا لا دينيا، لا يضيره أن يحكم حكما إسلاميا. بل المسيحي الذي يفهم دينه ويحرص عليه حقيقة، ينبغي أن يرحب بحكم الإسلام، لأنه حكم يقوم على الإيمان بالله ورسالات السماء، والجزاء في الآخرة. كما يقوم على تثبيت القيم الإيمانية، والمثل الأخلاقية، التي دعا إليها الأنبياء جميعا، ثم هو يحترم المسيح وأمه والإنجيل، وينظر إلى أهل الكتاب نظرة خاصة، فكيف يكون هذا الحكم ـ بطابعه الرباني الأخلاقي الإنساني ـ مصدر خوف أو إزعاج لصاحب دين يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر؟ على حين لا يزعجه حكم لا ديني علماني يحتقر الأديان جميعا، ولا يسمح بوجودها ـ إن سمح ـ إلا في ركن ضيق من أركان الحياة؟!

من الخير للمسيحي المخلص أن يقبل حكم الإسلام، ونظامه للحياة، فيأخذه على أنه نظام وقانون ككل القوانين والأنظمة، ويأخذه المسلم على أنه دين يرضى به ربه، ويتقرب به إليه.

ومن الخير للمسيحيين ـ كما قال الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله ـ أن يأخذه المسلمون على أنه دين، لأن هذه الفكرة تعصمهم من الزلل في تنفيذه، وعين الله ساهرة ترقبهم، لا رهبة الحاكم التي يمكن التخلص منها في كثير من الأحيان.
ومن هنا رحب العقلاء الواسعو الأفق من المسيحيين بالنظام الإسلامي بوصفه السد المنيع في وجه المادية الملحدة التي تهدد الديانات كلها على يد الشيوعية العالمية كما نقلنا ذلك من كلام العلامة فارس الخوري.
وأود أن أصحح هنا خطأ يقع فيه كثيرون، وهو الظن بأن القوانين الوضعية المستوردة من الغرب المسيحي قوانين لها رحم موصولة بالمسيحية، فهذا خطأ مؤكد، والدارسون لأصول القوانين ومصادرها التاريخية يعرفون ذلك جيدا. بل الثابت بلا مراء أن الفقه الإسلامي أقرب إلى المسيحية والمسيحيين في أوطاننا من تلك القوانين، لأصوله الدينية من ناحية، ولتأثره بالبيئة المحيطة التي هم جزء منها.
والادعاء بأن سيادة النظام الإسلامي فيه إرغام لغير المسلمين على ما يخالف دينهم، ادعاء غير صحيح.
فالإسلام ذو شعب أربع: عقيدة، وعبادة، وأخلاق، وشريعة، فأما العقيدة والعبادة فلا يفرضها الإسلام على أحد.
وفي ذلك نزلت آيتان صريحتان حاسمتان من كتاب الله: إحداهما مكية والأخرى مدنية، في الأولى يقول تعالى مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وفي الثانية يقول سبحانه في أسلوب حازم (لا إكراه في الدين).
وجاء عن الصحابة في أهل الذمة: اتركوهم وما يدينون.
ومنذ عهد الخلفاء الراشدين واليهود والنصارى يؤدون عباداتهم ويقيمون شعائرهم، في حرية وأمان، كما هو منصوص عليه في العهود التي كتبت في عهد أبي بكر وعمر، مثل عهد الصلح بين الفاروق وأهل إيلياء (القدس).
ومن شدة حساسية الإسلام أنه لم يفرض الزكاة ولا الجهاد على غير المسلمين، لما لهما من صبغة دينية، باعتبارهما من عبادات الإسلام الكبرى مع أن الزكاة ضريبة مالية، والجهاد خدمة عسكرية وكلفهم مقابل ذلك ضريبة أخرى على الرءوس، أعفى منها النساء والأطفال والفقراء والعاجزين وهي ما سميت (الجزية).
ولئن كان بعض الناس يأنف من إطلاق هذا الاسم، فليسموه ما يشاءون. فإن نصارى بني تغلب من العرب طلبوا من عمر أن يدفعوا مثل المسلمين صدقة مضاعفة ولا يدفعوا هذه الجزية وقبل منهم عمر، وعقد معهم صلحا على ذلك، وقال في ذلك: هؤلاء القوم حمقى، رضوا بالمعنى، وأبوا الاسم.
أما شعبة الأخلاق فهي ـ في أصولها ـ لا تختلف بين الأديان السماوية بعضها وبعض.
بقيت شعبة الشريعة بالمعنى الخاص: معنى القانون الذي ينظم علائق الناس بعضهم ببعض: علاقة الفرد بأمته وعلاقته بالمجتمع، وعلاقته بالدولة، وعلاقة الدولة بالرعية، وبالدول الأخرى.
فأما العلاقات الأسرية فيما يتعلق بالزواج والطلاق ونحو ذلك، فهم مخيرون بين الاحتكام إلى دينهم والاحتكام إلى شرعنا، ولا يجبرون على شرع الإسلام. فمن اختار منهم نظام الإسلام في المواريث مثلا ـ كما في بعض البلاد العربية ـ فله ذلك، ومن لم يرد فهو وما يختار.
وأما ما عدا ذلك من التشريعات المدنية والتجارية والإدارية ونحوها فشأنهم في ذلك كشأنهم في أية تشريعات أخرى تقتبس من الغرب أو الشرق، وترتضيها الأغلبية.
ومن هنا كان لأهل الذمة محاكمهم الخاصة يحتكمون إليها إن شاءوا وإلا لجئوا إلى القضاء الإسلامي، كما سجل ذلك التاريخ.
وبهذا نرى أن الإسلام لم يجبرهم على ترك أمر يرونه في دينهم واجبا، ولا على فعل أمر يرونه عندهم حراما، ولا على اعتناق أمر ديني لا يرون اعتقاده بمحض اختيارهم.
كل ما في الأمر أن هناك أشياء يحرمها الإسلام مثل الخمر والخنزير وهم يرونها حلالا، والأمر الحلال للإنسان سعة في تركه، فللمسيحي أن يدع شرب الخمر ولا حرج عليه في دينه، بل لا أظن دينا يشجع شرب الخمور ويبارك حياة السكر والعربدة. وكل ما في الإنجيل: أن قليلا من الخمر يصلح المعدة. ولهذا اختلف المسيحيون أنفسهم في موقفهم من الخمر والسكر.
وكذلك بوسع المسيحي أن يعيش عمره كله ولا يأكل لحم الخنزير فأكله ليس شعيرة في الدين، ولا سنة من سنن النبيين، بل هو محرم في اليهودية قبل الإسلام. ومع هذا نرى جمهرة من فقهاء الإسلام أباحوا لأهل الذمة من النصارى أن يأكلوا الخنزير، ويشربوا الخمر ويتاجروا فيهما فيما بينهم وفي القرى التي تخصهم، على ألا يظهروا ذلك في البيئات الإسلامية ولا يتحدوا مشاعر المسلمين.
وهذه قمة في التسامح لا مثيل لها.