المحنة في حياة الدعوة والداعية  :

- مدرسة المحنة 

- صور من محن الأولين

- المحنة بين الأمس واليوم 

-  كيف نواجه المحن

 تكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديما وحديثا؛ فالإسلام دعوة تمرد على مظاهر الحياة الجاهلية في كل صورها وأشكالها ... تمرد على العادات الجاهلية .. تمرد على الأفكار الجاهلية .. وتمرد على النظم والتشاريع الجاهلية وهذه الخاصية التي يمتاز بها الإسلام جعلت الحركة الإسلامية أكثر تعرضاً للمحن؛ وبالتالي جعلت المحنة لديها ذات مفهوم خاص لا يشاركها فيه سواها من الحركات الحزبية والسياسية ..

- المحنة تربية وتمحيص :

فالمحنة من أهم عوامل التكوين والاختيار في الإسلام ... وقد لا يكون للتكوين النظري قيمة ما لم تشترك فيه عوامل الشدة والبلاء وتفضيل النفس البشرية السلامة وعزوفها عن الخطر يستلزم  في كثير من الأحيان تعريضها للصعاب والمكاره؛ حتى تكتسب مناعة وقوة تمكنها من الصمود في وجه العوادي والنائبات والإيمان .. الإيمان نفسه بحاجة إلى المحنة لسبر غوره وإدراك مداه ... فالإيمان القوى الراسخ هو الذي يصمد في ساعة  العسر أما الإيمان السقيم العليل فسرعان ما تكشفه وتصدعه، وصدق الله تعالى حيث يقول { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنَّا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين }  لذلك كان لا بد لكل دعوى من دليل فالإيمان دعوى بحاجة إلى دليل والثبات في وقت الشدة مظهر من مظاهر هذا الإيمان ودليل وجوده ورسوخه { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }.

- صور من محن الأولين :

هكذا قضت سنة الله أن يكون الحق في صراع أبدى مع الباطل وكلما بزغ نور للحق تنادت عناكب الليل لطمسه { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً * قل إنما أدعو ربى ولا  أشرك به أحداً } { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } ومنذ الخليقة الأولي والنبوة الأولي منذ ولد الخير ووجد الشر والصراع عنيف ومخيف بينهما والحقيقة التي تتكرر باستمرار وتبدو بوضوح هي أن الحق دائما في انتصار وأن الباطل دائما في انتحار { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون }.

- المحنة في حياة إبراهيم :

لم تكن المحنة التي تعرض لها خليل الرحمن إلا إحدى حلقات الصراع الممتدة عبر القرون الضاربة في أعماق التاريخ ...والتي تؤكد على مدى الزمن غلبة أهل الحق وهزيمة أهل الباطل ...نشأ إبراهيم عليه السلام في مجتمع جاهلي كافر بكل القيم متطاول على نواميس الله ..وأبت الفطرة السليمة مجاراة التيار والانسياق مع الرأي العام والرضا والتسليم بالأمر الواقع ...وصمم إبراهيم على التصدي للجاهلية ومقاومتها مهما كلف الأمر  ..وتبدأ المحنة في حياة هذا الفرد الأعزل من كل سلاح ..فرد يمتطى صهوة الحق وحيداً .....ويعلن على الملأ إيمانه بالله وكفره بما يعبدون من دونه ..{قال أ فرأيتم ما كنتم تعبدون من دون الله أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }.

ويجدر بالداعية -كل داعية -أن يقف هنا ملياً ...يستشعر عظمة الإيمان الذي اعتز به قلب إبراهيم ...أنه وحيد ليس وراءه جماعة ولا أنصار ...وأعزل لا يملك قوة ولا سلاحاً ..ومنبوذ حتى من ذوي القرابة والوالدين ...ولكن أني للحق أن ينحني للباطل أو يتراجع أمام التهديد والوعيد ...وتشهد المحنة على إبراهيم  ....ويلقى في النار ...ويرضى بقضاء الله ويفرح بلقائه ..ومن الأفق الأعلى كان النبي المحتسب والرسول الممتحن يصغي إلى نداء الله وهو في حمأة اللهب المستعر :{ يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين }.

وتمضى قصة المحنة التي تعرض لها أبو الأنبياء ترسم لأهل الحق صوراً شتى من صور الرجولة والبطولة حتى ختم الله بأن جعله من رسله المصطفين  :{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين }.

- المحنة في حياة موسى :

وحياة موسى عليه السلام لم تكن غير سلسلة من المآسي والآلام .بل المحنة رافقت موسى رضيعاً  تتقاذفه الأمواج ويلفه الظلام وشبت معه فتى يانعاً هارباً من بطش فرعون .وزاد حياته محنة تعرضه لنقمة فرعون من جهة ولإيذاء قومه وسفههم من جهة أخرى.

          وظلم ذوي القربى أشد مضاضة 

                                      على المرء من وقع الحسام المهند

فكان على موسى أن يرد ضربات فرعون بيد ويتقى مكائد قومه باليد الأخرى . وهذا لعمري أشد صنوف المحن وأفظع ألوان البلاء.

فالدعوات قد تتمكن من مجابهة أخطر المحن الخارجية ‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎اذا كان صفها الداخلي قويا متربصا ..فكيف إذا كان متصدعا منهاراً ؟ وموسى عليه السلام كان هذا الإنسان الذي تولى قيادة شعب أعطي المقاد على خضوع بما ترادف عليه من جور الفراعنة وما تتابع عليه من ظلم الطغاة ....حتى هان عليه الهوان ... ألف الذل والاستسلام ..وكان الرسول المكلف بدعوة فرعون إلي عبادة الله وهو في أوج سطوته وقمة طغيانه :{إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم انه كان من المفسدين }.

ويمضى موسى في طريقه حاملا كل التبعات ...متعمدا على الله وحده .... واثقا من نصره وتأييده ... وفي فترة من فترات الضعف البشرى يحس موسى بالوجل والخوف يختلجان في صدره وهو في قلب المعركة يجابه فرعون وسحرته وزبانيته ...ولكن السماء سرعان ما تتداركه بالمدد وتقذف في قلبه الطمأنينة :{فأوجس في نفسه خفية موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتي }.

لكم تدافعت الخطوب وتتابعت لتسد  على موسى الطريق وتغلق دونه المنافذ والدروب ...ولكن سرعان ما كانت تنكشف أمام العزيمة والإيمان ويمضى الزحف المقدس يشق طريقه عبر الحياة بثقة وتصميم ...

لكم حاول قارون أن يفتن الناس بماله ويصر فهم عن موسى ودعوته ...لكم حاول شراء الضمائر ورمي موسى بشتى التهم والأراجيف ..ولكن الله كان يكشف ما يضمر  ويخرج من هذه التجارب أصلب عودا وأشد صعودا .

ويختم القرآن قصة موسى وفرعون فيقول :{ لقد جاء آل فرعون  النذر * كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر * أكفاركم  خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر * أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع و يولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }.

منقول بتصرف من كتاب -مشكلات الدعوة والداعية للأستاذ فتحي يكن – رحمه الله