ولكن الإمام الشهيد بعد أن ذكر العقبات ذكر عوامل النجاح، وهي أننا ندعو بدعوة الله وهي أسمى الدعوات ونقدم للناس شريعة القرآن، وهي أدل الشرائع، وأن العالم كله في حاجة إلى هذه الدعوة، وكل ما فيه يمهد لها ويهيئ سبيلها، وأننا بحمد الله برآء من المطامع الشخصية، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس، وأننا نترقب تأييد الله ونصرته، ومن نصره الله فلا غالب له.

هكذا، وبعد ذكر هذه المقتطفات من أقوال الإمام الشهيد حول طريق الدعوة وعن المقومات والمشاعر التي يلزم أن تتوفر عند رجل العقيدة، ومن خلاصة التجارب التي استفدناها على الطريق بعد استشهاد الإمام الشهيد نقدم للأجيال ثمرات هذه التجارب بما يعينهم على إعداد أنفسهم سائلين الله تعالى أن نكون وإياهم أهلاً لتنزل نصر الله علينا وتحقيق الهدف الذي أقام الإمام الشهيد جماعة الإخوان من أجل تحقيقه ألا وهو إقامة دولة الإسلام العالمية، وعلى رأسها الخلافة الإسلامية أو بمعنى آخر التمكين لدين الله في الأرض.

• العقيدة السليمة والإيمان الصادق:

بعد أن أوضحنا الدور العظيم الذي يتصدى للقيام به رجل العقيدة وجندي الدعوة في هذه المرحلة المهمة من عمر الدعوة الإسلامية، وهو إرساء القاعدة الصلبة التي يقوم عليها صرح الدولة الإسلامية العالمية وعلى رأسها الخلافة الإسلامية بإذن الله، نقول: إن المقوم الأساسي له هو العقيدة السليمة والإيمان الصادق.

ولقد أودع الله في فطرة الإنسان هاديًا يهدي إلى الله حيث سرت فيه لأول خلقه روح من ربه وانعقد بينهما عهد عرف به العبد خالقه وأذعن له، فإذا استوى وبلغ رشده وجد في نفسه داعية يتجه به إلى الله من جراء ذلك العهد الأول. ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف:172).

ولقد تخبطت البشرية حول قضية العقيدة وعبادة الله على مر الأزمان؛ فظهر من عبدواْ الشمس، ومن عبدواْ الأصنام، ومن عبدواْ الشجر، ومن عبدواْ النار، ومن أَلَّهُواْ البشر، ومن أشركواْ مع الله آلهة أخرى، ومن قالواْ إن الله ثالث ثلاثة، ومن قالواْ عزير ابن الله، ومن قالواْ المسيح ابن الله.. إلى غير ذلك من انحرافات خاطئة.

ولكن عقيدة التوحيد السليمة النقية الخالصة من أية شائبة هي التي جاء بها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-والرسل من قبله.

فعلى كل مسلم الالتزام بهذه العقيدة السليمة ليصح إسلامه.

وصار لزامًا على رجل العقيدة الذي كرَّس حياته للتمكين لهذا الدين الحق الذي ارتضاه الله للناس كافة أن يكون سليم العقيدة؛ كي ينشرها بين الناس صحيحة نقية، ولينضبط معها سلوكه في هذه الحياة؛ فالمرء يتحرك ويتصرف في حياته من منطلق عقيدته واعتقاده.

وقد اهتم الإمام البنا بقضية العقيدة في أحاديثه وكتاباته وتربيته للإخوان، وله رسالة باسم(رسالة العقائد) تناول فيها بدقة ما يلزم أن يعلمه رجل الدعوة عن قضية العقيدة، وما يتصل بها في اعتدال سليم، دون غلو أو انحراف، كما اهتم كُتَّاب الإخوان أيضًا بهذه القضية في كتبهم وكتاباتهم.

ثم إن العقيدة السليمة تثمر الإيمان الصادق بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.

والإيمان هو كل شيء بالنسبة للإنسان بل هو الحياة الحقيقية له مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ (الأنعام:122)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال:24).

والإنسان الذي لا يؤمن بالله كمثل الأنعام بل أضل. ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف:179).
أما الذين يشركون بالله آلهة أخرى فقد وصف حالهم في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ (الحج:31). وذلك كناية عن القلق والتمزق النفسي وعلى التيه والضياع.

• الإيمان مصدر الطمأنينة:

أما عقيدة التوحيد والإيمان فيتمتع صاحبها بالاطمئنان والراحة النفسية. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28) حيث يشعر المؤمن أنه في رعاية إله كريم رءوف به رحيم.

فالمؤمن يركن إلى من بيده الأمر كله، ويسلم نفسه إليه، ويفوض أمره إليه، ويلجئ ظهره إليه، ويعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه. فلماذا يقلق؟!! وماذا يخشى وهو في معية الله؟!!

فمن كان الله معه لم يفقد شيئًا ولم يشعر بحاجته إلى أحد غير الله مهما كان في شدة، فالله أعلم بحاله وهو القادر وحده على إنقاذه من تلك الشدة، كما أن المؤمن يعلم أن كل ما يقدره الله له هو الخير، وإن بدا في ظاهره أنه شر. ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:216).

*وبالعقيدة السليمة والإيمان الصادق يصحح المرء مقاييسه وموازينه؛ لتكون ربانية لا مادية فلا تصبح الدنيا الزائلة أكبر همه، ولا مبلغ علمه، ولا تشغله عن الآخرة التي هي الحياة الحقيقية الدائمة، ولكن يعيش دنياه لآخرته فيلتزم في كل أمور حياته صغيرها وكبيرها وَفقًا لتعاليم الإسلام كما جاءت في كتاب الله وفي سنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-ويؤثر ما عند الله على كل متاع الدنيا.

والعقيدة مع الإيمان يفجران في النفس كل طاقات الخير والعمل الصالح فيصبح المؤمن كله حيوية ونشاط، يحقق الإنجازات الكبيرة في أقل وقت، وبأقل جهد مستعينًا بالله، دون شعور بعجز أو يأس، فتصبح حياته ولو كانت قصيرة حافلة بالعمل والإنتاج المثمر في حقل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله، منفذًا لإرادة الله وحكمته في خلقه في هذه الدنيا.
وعلى رأس ما يطلبه منا الإسلام في هذه المرحلة هو التمكين لدين الله في الأرض بإقامة دولة الإسلام وخلافته.

• العقيدة بغير علم مفسدة:

وهنا يجب أن ننبه إلى أن الطاقات الهائلة التي تفجرها العقيدة في الحياة لابد أن تكون على هدى من العلم بدين الله وتوجيه الله؛ لأن التلبس بالدين مع الجهالة خطر عظيم وتولد جهودًا عمياء، وقوة خرقاء، تطغى على حدود النظام الاجتماعي، طوفانًا يخرب الحياة من حيث يريد أصحابها الإصلاح ويحسبون أنهم مهتدون.

والإيمان الصادق يعطي صاحبه طاقة من الصبر والثبات وتحمل الأذى في سبيل الله، دون تفريط في هذا الدين الحق ومتطلباته.

وسمية وياسر وبلال وغيرهم خير مثال لذلك، بل من تعرض من الإخوان في المحن المتتالية إلى الإيذاء والتعذيب الشديدين.

والحقيقة أن الصبر والثبات من الله لذلك أرشدنا الله إلى الدعاء في مثل هذه الظروف. ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة:250).

وهذا الإيمان هو الذي جعل سحرة فرعون بعد إيمانهم لا يخشون تهديد فرعون لهم بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم وكان ردهم على هذا التهديد: ﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه:72،73).
*والإيمان يدفع المؤمنين إلى الحب في الله والأخوة والإيثار. ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر:9).

*والإيمان الصادق يدفع إلى الجهاد في سبيل الله دون تثاقل إلى الأرض، ويدفع إلى حب الاستشهاد في سبيل الله، والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا.

*والإيمان يجعل صاحبه يقول الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، ولا يداخله تردد ولا يأس؛ فالمؤمن يعلم أن الباطل مهمـا انتفش فهو زهوق، وأن سنة الله التي لا تتبدل تتمثل في قوله تعالـى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد:17).
*والمؤمن يأخذ بالأسباب ولا يعول عليها، ويتوكل على الله حق التوكل وهو مطمئن أن الله كافيه... ﴿وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق:3). فيسير على الطريق الصحيح في إقدام واطمئنان متوكلاً على الله، موقنًا أنه يأوي إلى ركن شديد، لا يبالي بالذين يقومون في وجهه، يصدونه عن سبيل الله ويبغونها عوجًا لا يفتنه منهم إغراء، ولا يستخفه إرهاب؛ لأنه معتصم بالله مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.

*والإيمان الصادق يدفع صاحبه إلى طاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- واتباع سنته؛ لأنه يعلم أن طاعة الرسول طاعة لله. ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ (النساء:80).

*والإيمان يولّد في النفس الشعور بالعزة والأستاذية للبشرية، وليست عزة تدفع إلى التعالي على الناس، ولكن عزة تحمل الرحمة والرأفة بالغير والأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية. ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون:8)، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة:143)، وهكذا، وبعد هذه الجولة حول دور الإيمان وأثره في حياة رجل الدعوة وجندي العقيدة، وقد رأينا أهمية هذا الدور ندعو كل أخ أو أخت إلى وقفة إيمانية يراجع فيها نفسه ومدى تمثله لصفات المؤمنين الواردة في كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- وندعوه كلما قرأ في القرآن آية فيها هذا النداء الحبيب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أن ينتبه أشد الانتباه إلى ما بعد هذا النداء ليتمثله ولسان حاله يقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا إليك المصير.

منقول بتصرف من كتاب – مقومات رجل العقيدة – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله.