لا يجوز الانفراد بالقرار:

ولا يجوز الاحتجاج بأن الرئيس أو القائد متخذ القرار يملك رؤية أوسع، إذا كانت لديه الفرصة لوضع كل الحقائق والمعلومات أمام مجلس الشورى.

لعل هذا هو الذي يوافق السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد:

لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرة قريش لقتاله، حتى بلغوا مسافة خمسة أميال من المدينة، بعث من يتحسس الأخبار؛ كي لا يتخذ القرار إلا على معلومات مؤكدة، ثم استشار أهل الرأي فانقسموا إلى قسمين:

البعض الآخر أشار بالخروج لملاقاة العدو ردعاً له، وإظهارا لشوكة المسلمين، وقد تغلب هذا الرأي في النهاية، فكان أن اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره على مقتضى ما أشارت به الأغلبية رغم مخالفتها لما كان يراه.

ولم يأت القرار إلا بعد المراجعات والمناظرات التي تسبق القرار. وكان "العزم" (أي القرار) أن يتهيأ الجميع للمعركة وملاقاة العدوة عند جبل أحد، بنظام دقيق فصله رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضمن حسن استخدام الجبل كموقع استراتيجي هام، لا يجوز التخلي عنه حتى تحسم المعركة، وأوصى المجاهدين بالتزام ما أمرهم به والصبر، فإن فعلوا فالنصر لهم بإذن الله.

وقد سار الخلفاء الراشدون من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الشورى على نفس النهج:

فلما استشار أبو بكر رضي الله عنه في قتال من منعوا الزكاة، وعارضه من عارض، وكان منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يترك الأمر، ولم يستبد برأيه، فحاجهم أبو بكر حتى حجهم، وكان قراره بقتال من فرقوا بين الصلاة والزكاة باعتبارهم مرتدين عن الإسلام.

ويروي القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج" أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن أرض العراق والشام، التي أفاء الله بها على المسلمين، وكان يرى إبقاءها مالاً عاماً للمسلمين تسد بها الثغور (أي ينفق منها على الجهاد في سبيل الله) ويرزق منها القضاة والعمال (أي يعطي منها أجور القضاة والولاة وكبار موظفي الدولة والجند) وينفق منها على الأرامل واليتامى والمحتاجين وينتفع بها أول المسلمين وآخرهم، وكان هناك من تكلم بغير رأي عمر رضي الله عنه فجمع مجلساً للشورى من عشرة نفر من أهل المدينة وظلوا في حوار وجدل ثلاثة أيام حتى ساق عمر من الحجج ما أقنعهم بصواب رأيه وكان على ذلك قراره.

ولا يظنن أحد أن عمر رضي الله عنه قد مارس ضغطاً أدبياً على مجلس الشورى، بل على العكس، فإنه قال لهم حين اجتمع بهم: "إني لم أزعجكم إلا لأشرككم في أمانتي، وفيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون الحق خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا رأيي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت أمراً أريده ما أريده به إلا الحق".. قالوا: نسمع يا أمير المؤمنين .. الخ.

على أنه إذا فرض وتساوى الرأيان، فعلى صاحب القرار أن يرجح كفة أحدهما، ولعل هذا ما يوافق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه أبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما".

فإذا ما تعددت الآراء ولم تظهر أغلبية، فإن الشورى لا تكون قد اكتملت بعد، وعلى صاحب القرار أن يبذل وصحبه من الجهد ما يظهر هذه الأغلبية، فيتخذ القرار والجميع في حالة اطمئنان بأن كلا منهم قد أدى الفريضة كما ينبغي، ويكون ذلك من خلال المزيد من بسط الموضوع والاستماع إلى آخرين من ذوي الخبرة والرأي للاسترشاد برأيهم، وبذل الجهد في فهم كتاب الله وسنة رسوله.

لقد أمر الإسلام بالشورى كنظام يتبع داخل الجماعة المسلمة، كل يدلي برأيه على مرأى ومسمع من الجميع، دون حجر على رأي أو استهزاء به أو سخرية من قائله، أو إهمال لمبديه، ولذلك كان من الخطر على بنيان الجماعة أن يتناجى اثنان أو أكثر بعيداً عن أعين الآخرين ودون علم القيادة، من أجل ذلك نهى المولى عن التناجي حتى لا توغر الصدور ولا تنقطع الأرحام، ولا تفسد المودة التي تربط الجميع.

 

الشورى والنجوى

يبدو أن بعض المسلمين ممن لم تتطبع نفوسهم بعد بحاسبة التنظيم الإسلامي، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور ليتناجوا فيما بينهم، ويتشاوروا بعيداً عن قيادتهم، الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية، وروح التنظيم الإسلامي التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة، وكل اقتراح على القيادة ابتداء، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة، كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة وما يؤذي الجماعة المسلمة، ولو لم يكن قصد الإيذاء قائماً في نفوس المتناجين ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الرأي فيها على غير علم قد يؤدي إلى الإيذاء وإلى عدم الطاعة؛ ولذلك ناداهم الله بصفتهم التي تربطه به، وتحمل النداء وقعه وتأثيره (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون (9) إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [المجادلة: 9، 10].

فهو سبحانه ينهاهم عن التناجي –إذا تناجوا- بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي تناجى بها المؤمنون (وتناجوا بالبر والتقوى) [المجادلة: 9] لتدبير وسائلها وتحقيق مدلولها، والبر: الخير عامة، والتقوى اليقظة، والرقابة لله سبحانه وهي لا توحي إلا بالخير، ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون إليه، فيحاسبهم بما كسبوا، وهو شاهده ومحصيه، مهما ستروه وأخفوه.

قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان، قالا: أخبرنا همام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإنى قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين".

والمولى سبحانه وتعالى ينفر المؤمنين من التناجي والمسارة والتدسيس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة، التي هم منها، ومصلحتهم مصلحتها، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها في شأن من الشئون، فيقول لهم: إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس، وتخلق جواً من عدم الثقة، وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم، ويطمئن المؤمنون بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه".

وهو أدب رفيع، كما أنه تحفظ حكيم؛ لإبعاد كل الريب والشكوك، فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر، أو ستر عورة، في شأن عام أو خاص، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم، وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة، ولا يجوز أن يكون تجمعاً جانبياً بعيداً عن علم الجماعة، فهذا هو الذي نهى عنه القرآن، وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة، وهو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة، لأن الله حاميها وكالئها، وهو شاهد حاضر في كل مناجاة، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر، وقد وعد الله بحراسة المؤمنين، فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.