إحسان الفقيه

يحكي العلامة عطية سالم، أنه خلال رحلة داخلية في نيجيريا مع الزعيم النيجيري الراحل أحمد بلو، سمع بأنه أثناء حرب فلسطين جهزت سفينة حربية لإنقاذ القدس، فسمع المسئولون التنادي بالقومية العربية، وأن على العرب حماية القدس، وعليهم مسئوليتها، فقال المسئولون هناك: إذا كانت القضية الفلسطينية قضية عربية وليست إسلامية فلسنا بعرب، وأمروا السفينة بالعودة.
كم كانت الجناية على القدس كبيرة، جراء حصر قضيتها في دائرة ضيقة، سواء كانت وطنية أم عربية، وعدم الاستفادة من الدائرة الإسلامية التي تعد الأكثر اتساعا واستيعابا للطاقات التي تستفيد منها القضية الفلسطينة.
ومن أجل ذلك، تنادى العديد من علماء ومفكري ومثقفي الأمة بأسلمة القضية الفلسطينية، لكن يغلب على أصحاب هذا الاتجاه مخاطبة الذات، وأعني أن خطابهم يدور في دائرة المقتنعين بإسلامية القضية الفلسطينية، فمن ثم تنحصر ثمرة هذا الخطاب في تأكيد المؤكد.
عندما طالعت أطروحة المفكر الإسلامي الراحل محمد عمارة، حول قضية أسلمة القضية الفلسطينة في كتابه «إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين»، ألفيته طرحا مختلفا، إذ حوّل خطابه حول هذه القضية إلى الأمة بأسرها على اختلاف مشارب وتوجهات وأطياف وشرائع أبنائها، فمن ينظر منهم بموضوعية إلى هذا الطرح سوف يقتنع حتما بضرورة أسلمة القضية الفلسطينية، حتى مع تمسكه بأيديولوجيته وانتمائه ولو كان بعيدا عن الدائرة الإسلامية. في البداية يؤصل عمارة لطبيعة مشكلتنا مع العدو الصهيوني، لأنها مسألة تكثر حولها الطنطنة، وفي ظل تشويهها المُتعمد تُظلم القضية الفلسطينية، فيؤكد على أن مشكلتنا ليست مع اليهودية، التي جاء بها نبي الله موسى، لأن من أصول الإيمان لدى المسلمين الإيمان بجميع المرسلين، وليست مع الإنسان اليهودي لأن الحضارة الإسلامية استوعبت جميع القوميات والشرائع، وفتحت أمام أصحابها كل ميادين التفاعل الحضاري، وإنما المشكلة مع المشروع الصهيوني الإمبريالي الذي وظّف التلمودية – التي فسرت التوراة وفق أحقاد نفسية الشتات ـ لصالح نزعاته الاستعمارية الاستيطانية.
ينطلق المفكر الإسلامي في دعوته لأسلمة القضية الفلسطينية، من كون العدو الصهيوني نفسه ينطلق في مشروعه من الدين، فمنذ البداية استطاعت الصهيونية حشد يهود الشتات إلى فلسطين بدافع ديني ونبوءات توراتية بتفسيرات تلمودية، ومعالم التمسك بهذه الهوية، وذلك البعد الديني ظاهرة حاضرة في المجتمع الإسرائيلي لا تحتاج لما يبرهن عليها، اجتمع عليها جميع الأحزاب والتوجهات المختلفة، المتدينون أو العلمانيون، لأن هذه الهوية بالنسبة إليهم ضرورة من ضرورات الوجود. وبعد أن سرد مظاهر التحالف ذي الطابع الديني والبعد اللاهوتي بين الصهيونية والإمبريالية الغربية، خلص إلى ضرورة دعم الدائرة الفلسطينية، والدائرة العربية بالمحيط الإسلامي، في مواجهة هذا التحالف، خاصة أننا نسعى إلى حشد وتأييد الدوائر الافريقية، ودوائر عدم الانحياز، والدوائر الإسلامية لصالح قضيتنا، فكيف نسقط الدائرة الإسلامية من حسابتنا رغم أنها هي الأكثر شمولية واتساعا واستيعابا؟ ومن أبرز المسائل التي طرحها محمد عمارة في هذا المجال، التأكيد على أن أسلمة القضية الفلسطينة، لا تعني إسقاط أو تهميش البعد الوطني الفلسطيني، ولا الاستغناء عن البعد القومي العربي لهذا الصراع، بل هو واقع يضيف الإمكانات الإسلامية للإمكانات والطاقات الفلسطينية والعربية، يرفدها ولا ينتقص منها، لأن الإسلام مظلة جامعة للوطنية والعروبة، يهذبها ويوظفها في مسار الحضارة الإسلامية، التي تسع الجميع.
يؤكد طرح عمارة على أن إسلامية القضية الفلسطينية، ليست استعداء لأهل الملل الأخرى، مشيرا هنا إلى أن فلسفة الصراع ليست موجودة في الإسلام، وإنما آثر الإسلام منهاج التدافع لتعديل المواقف، وهذا التدافع يكون حفاظا على جميع المقدسات، سواء التي تتعلق بالمسلمين أو المسيحيين، أو اليهود، استشهادا بالآية الكريمة «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ». لا تعني إسلامية القضية الفلسطينية نفي اليهود، وإنما تفتح لهم طريق العيش في أمان وسلام باعتبارهم مواطنين، وهذا ما رسخته المعاهدات في عهد النبوة مع يهود المدينة، فيما يعتبر أول وثيقة تاريخية تحث على المواطنة. من المعلوم أن الحروب الصليبية جعلت احتكار القدس حكرا على أصحابها، بينما القدس في ظل الإسلام كانت متاحة للجميع، وأمانا لكل أصحاب الشرائع، بل كانت الأسر المسلمة مؤتمنة على نظارة أوقاف الكنائس ومفاتحها. ويركز عمارة على بيان هذه الحقيقة، لأن هناك من يحذر من إسلامية القضية الفلسطينية بدعوى أنها تستبعد أصحاب الشرائع الأخرى، فأوضح أن أسلمة القضية يفيد الجميع، واليهود والمسيحيون بالأساس كانوا جزءا من الحضارة الإسلامية الجامعة بعد بزوغ الإسلام. ولم يوجه عمارة طرحه إلى أصحاب الدوائر الوطنية الفلسطينية، أو القومية العربية، أو أصحاب الشرائع الأخرى وحدهم، وإنما عمم خطابه ليصل إلى إبراز إمكانية دخول العلمانيين والماديين تحت مظلة أسلمة القضية الفلسطينية، ليس على أساس ديني بالطبع، ولكن على أساس استثمار البعد الديني للقضية كتراثٍ لأمتهم، وقبل أن يتندر البعض على هذا الطرح، فيجدر بهم أولا النظر إلى الواقع العلماني في المجتمع الإسرائيلي والاستفادة منه، فالعلمانيون اليهود لا ينادون بالتخلي عن يهودية إسرائيل، بل إن يائير لبيد وزير الخارجية الإسرائيلية ومؤسس حزب «ييش عتيد» الأكثر تمثيلا للتيار العلماني في إسرائيل، هو صاحب العبارة الشهيرة «لن يتم فصل الدين عن الدولة في إسرائيل لأبد الآبدين».

الكاتب الصهيوني العلماني موشيه بن عطار صرح بأن فصل الدين عن الدولة في إسرائيل شعار أجوف وغير واقعي ولا يمكن قبوله لأنه لا يعفيهم من تحمل تبعات انتمائهم اليهودي. بروفيسور الفلسفة في الجامعة العبرية شاؤول روزنفيلد يؤكد على أهمية الدين، رغم أنه علماني فيقول: «نحن العلمانيون في إسرائيل لا يمكن أن نقبل فصل الدين عن الدولة، لأن هذا يمثل خطرا وجوديا على الدولة، فهو يعني القضاء على هوية الدولة وطابعها اليهودي». اليهود العلمانيون والمتدينون، بينهم إيمان مشترك بأهمية اليهودية، العلمانيون يريدونها كرأس حربة في المشروع الصهيوني، والمتدينون يريدونها لأنها دينهم وعقيدتهم وتاريخهم، فعلمانيو العرب أولى بأن يكون لهم ذلك الصنيع. إن ما طرحه الدكتور محمد عمارة حول أسلمة القضية الفلسطينية، دعوة تجميعية تقريبية لا إقصائية، تضيف ولا تنتقص، تقوي ولا تضعف، وهو طرح جدير بالدراسة والتأمل لكل من يأمل في نصرة القضية الفلسطينية على اختلاف أيديولوجيته وانتمائه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصد: القدس العربي