وتستمر سلسلة التساقط للأفراد التي تتسبب فيه الحركة مثل

5- عدم حسم الأمور بسرعة: وهذا السبب لا يقتصر ضرره على جانب معين، وإنما يتسبب بتعقيد الأمور والمشكلات والوصول بها إلى طريق المسدود ..

إن من الطبيعي أن كل حركة تعترضها قضايا عادية تحتاج إلى حسم كما تعترضها مشكلات تحتاج إلى حل، ومن الطبيعي ـ كذلك ـ أن كل حركة تعتمد صيغاً معينة وأساليب محددة لمعالجة قضاياها ومشكلاتها تلك..  وبقدر ما تكون صيغ المعالجة وأساليبها سهلة وواضحة وسريعة بقدر ما يكون سير الحركة منتظماً وأجواؤها سليمة وبقدر تباطؤ الحركة عن متابعة قضاياها وحسم مشكلاتها بقدر ما يتسبب ذلك بتراكم القضايا وتعطل الأعمال وتزايد المشكلات..

فالمشكلة قد تبدأ صغيرة محدودة، وتركها من شأنه أن يضخمها من جانب، ويتسبب بتوالد مشكلات أخرى عنها من جانب آخر.

أحياناً قد لا تحتاج مشكلة لأكثر من كلمة، أو قرار، أو زيارة، أو لقاء، أو اعتذار، أو معاتبة، أو نصيحة، أو مواساة، أو توضيح، أو مكاشفة، أو غير ذلك من التكاليف السهلة اليسيرة، أما حين تُترك وتُؤجل فقد تأخذ من الحركة كثيراً من الطاقات والأوقات، وقد تنجح الجهود بعد ذلك، وقد لا تنجح ..

أذكر أن أحد الأخوة كان على مسئولية تنظيمية في أحد مراكز العمل ولقد بدر منه ما يعتبر مخالفة شرعية، وكان من السهل معالجة القضية لتوها لولا أن القيادة تأخرت في ذلك.. فماذا حصل ؟

الذي حصل.. أن المخالفة الشرعية تكررت من الأخ إلى أن  أفتضح الأمر وأصبح على كل شفة ولسان وتطورت القضية أكثر حتى شغلت عدداً من المسئولين والأجهزة فشكلت اللجان، وأجريت التحقيقات، وصدرت العقوبات، وتبعتها ردود الفل داخلياً، وفي الخارج جرى توظيفها توظيفاً سيئاً .

والحقيقة أن السرعة في حسم الأمور ومعالجة المشكلات من شأنه أن يغنى الحركات عن كثير من المتاعب ويجنبها العديد من الخضات الداخلية التي لا تنتهي في أغلب الأحيان إلا بخسارة البعض وتساقطهم والتسبب بتساقط غيرهم ..ولدى البحث عن أسباب عدم الحسم في الحركات يمكن الوصول إلى النتائج التالية :

(أ) قد يكون ذلك عائداً لطبيعة العناصر القيادية التي لا تملك عادة القدرة على الحسم .

(ب) وقد يكون ذلك عائداً للروتين التنظيمي الذي يفترض مرور كل قضية عبر الأجهزة التنظيمية، وبالتالي لا يعطى المسئول صلاحيات الحسم .

(ج) وربما يكون ذلك عائداً لاتساع القاعدة، وضمور القيادة، وعدم تمكنها من تغطية احتياجات العمل المختلفة والتي لا يمكن أن تنهض بها في كثير من الأحيان إلا أجهزة متفرغة ذات قدرات وخبرات عالية ..

والنتيجة في النهاية تكون واحدة وهي مزيد من المشكلات والأزمات والخسائر على كل صعيد ..

6- الصراعات الداخلية : وتعتبر من أخطر ما يصيب الحركات من أمراض ومن العوامل التي تفت في عضدها والمعاول التي تتسبب في هدمها ..

فهي من جهة تسمم الأجواء وتكهربها، ومن جهة أخرى تفسد علائق الأفراد، ومن جهة ثالثة تورث الجدل والمراء وتوقف العمل والبناء .. ثم هي فوق هذا وذاك توهن الدعوة وتغرى بها من حولها .

وأسباب نشأة الصراعات الداخلية كثيرة ...

-فقد تكون بسبب ضعف القيادة، وعدم تمكنها من إمساك الصف وضبط الأمور ..

- وقد تكون بسبب أياد خفية وقوى خارجية تعمد إلى إثارة الفتنة ..

- وقد تكون بسبب اختلاف الطباع والتوجهات التي أفرزها تناقض النشأة التربوية والبيئية ..

- وقد تكون بسبب التنافس على المواقع وبخاصة الحركية والسياسية ..

- وقد تكون بسبب عدم التزام سياسة الحركة وقواعدها وأصولها وعدم الانصياع لقرارات أجهزتها وبروز (الشخصانية ) والتصرفات الفردية ..

- وقد تكون بسبب القعود عن العمل والإنتاج الذي من شأنه أن يشغل العاملين بدعوتهم ويفرغ جهودهم في العمل لها والجهاد في سبيلها ..

من خلال هذا وغيره تنشأ الصراعات في الحركات وتتفجر الخلافات حتى لتكاد تأتى عليها إن لم تبادر إلى إنقاذ الموقف قبل فوات الأوان ..

وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ظواهر كثيرة من هذا المرض العضال .

وفي تاريخ الدعوة ومنذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ظواهر هذا المرض العضال تبدو وتختفي، تقوى وتضعف حسب الظروف المحيطة وقدرة القيادة على الحسم إلى غير ذلك من معطيات ...

- من هذه الظواهر : الصراع الذي تفجر في المدينة بين (الأوس والخزرج) من المسلمين والذي تولى كبره اليهود وعلى رأسهم اليهودي الماكر (شماس بن قس ) ...

ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره أن رجلاً من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم (بعاث) وتلك الحروب ففعل .. فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض، وتشاوروا ونادوا بشعارهم (أي شعار الجاهلية -ياللأوس ويا للخزرج ) وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى( الحرة).

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدرك أنها فتنة يهودية؛ فخرج لتوه دونما تأخر أو تأجيل حتى جاءهم في حيهم فقال ((يا معشر المسلمين .. الله الله .. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله تعالى للإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم به أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم )).

ولقد فعلت مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها في نفوس (الأوس والخزرج)) وأدركوا أنهم استدرجوا من قبل اليهود، وأن الشيطان قد نزغ بينهم ولم يكن منهم إلا أن تباكوا وتعانقوا وعادوا أشد مما كانوا لحمة وتواثقاً وتعاضداً وحباً فيما بينهم ..

ولقد نزل في هذا الحادث قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) من سورة آل عمران

الإهتمام بالصف والمحافظة عليه في كل المراحل والظروف ..

فهناك قيادة قد تتمكن من الإمساك بزمام الأمور عندما يكون الأفراد في سن معينة، وثقافة معينة، وظرف معين، فإذا تقدم السن، ونمت الثقافة، وتغير الظرف بان عجزها وانكشف ضعفها فإن أمكن تدارك الأمر وسد العجز القيادي في الحركة  بشكل أو بآخر انتهت المشكلة، وإن لم يمكن ذلك لسبب أو لآخر تعرضت الحركة لتفسخات وانقسامات قد تودي بها بالكلية .

وضعف القيادة قد يكون ناجماً عن عدة أسباب وعوامل ..

-فقد يكون الضعف في الإمكانات الفكرية عموماً بحيث لا تتمكن القيادة من تغطية هذا الجانب وإشباع الجوعة الفكرية عند الأفراد .. أو قد تكون قادرة في جانب فكرى وعاجزة في  الجوانب الأخرى ..

- وقد يكون الضعف في الإمكانات التنظيمية بحيث تكون العناصر القيادية غير متمتعة بالمواهب والقدرات التنظيمية الشخصية التي تمكنها من ضبط التنظيم ووضع القواعد والأصول التنظيمية اللازمة له وبذلك يختل العمل، وتختلط الصلاحيات، وتنمو المشاكل والإشكالات؛ مما يساعد على سقوط الأفراد من حياة الدعوة ..

وللحديث بقية – منقول بتصرف من كتاب – المتساقطون على الطريق  كيف .. ولماذا ؟ - للأستاذ فتحي يكن رحمه الله