ياشهر رمضان ترفّق,عسى منقطع من ركب المقبولين يلحق ,عسى أسير الأوزار يُطلق ,عسى من استوجب النار يُعتق من النار ، وذلك ــ ورب الكعبة ــ هو الفوز المحقق والنجاح الأبدي والنجاة التي ما بعدها نجاة، وهي النتيجة التي عمل لها الصالحون ، وذابت في رغبة الوصول إليها قلوب المشتاقين، وانكسرت في الحرمان منها نفوس النادمين ، فقد قال سبحانه:( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ )(آل ععمران185)
مهلًا مهلًا رمضان، ما أعجلك في ارتحالك ، هلَّا منحتنا فرصة العشر الأواخر، ليتدارك فيها المقصرون تقصيرهم، ويزيد فيها المُشمرون تشميرهم؟! » فالغبن كل الغبن أن يخطئ العبد توفيق الله له في شهر التوفيق ، وأن يحرم معيته الخاصة ، التي يمنحها لعباده الصالحين ، والحرمان كل الحرمان أن لا يراه مولاه أهلا لنيل شرف القبول ، وأن يمر عليه رمضان وهو يراوح مكانه دون أن ينخرط بصدق في مدرسة العبودية ، ودون أن ينل من عجائبها ، ويرزق من أنوارها ، ويقطف باقات حدائقها الفيحاء ، ويخدع نفسه مع تقصيره وتفريطه ، بحجة أنه يحسن الظن بربه من دون أن يقدّم الثمن، وقال سفيان الثوري رحمه الله: “أَحَبُّ إليّ إذا دخلَ العشرُ الأواخرُ أن يَتهجَّدَ بالليل، ويجتهدَ فيه، ويُنهِضَ أهلَه وولدَه إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك” ابن رجب، لطائف المعارف: ص342
ليلة القَدر "إلتمسوها"
إن الله تعالى يُقدّر فيها الأرزاق والآجال، وحوادث العالم كلها، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والعزيز والذليل، وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة، ثم يدفع ذلك إلى الملائكة لتتمثله، كما قال تعالى: "فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ". وهو التقدير السنوي، والتقدير الخاص، أما التقدير العام فهو متقدم على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحت بقوله الأحاديث.
وليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأنها تنتقل في ليالي العشر، فمن قام ليالي العشر كلها وأحياها بالعبادة أصاب ليلة القدر يقينًا. إن العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر و الملائكة تتنزل فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة والعتق من النار. من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه. وقد بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المحروم من حُرِم أجرَ ليلة القدر، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ” رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني وقيام ليلة القدر من أسباب مغفرة الذنوب بشرطين: أن يكون إيماناً وتصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، واحتساباً وإخلاصاً لله تعالى لا بقصد الرياء، وإنَّ السنة لمن أدرك ليلة القدر الإكثار من دعاء: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، فعن عائِشةَ رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إنْ عَلِمْتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القَدرِ، ما أقولُ فيها؟ قال: قُولي: “اللَّهُمَّ إنِكَّ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فاعْفُ عَنِّي” (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني)
هيا..هيا..هيا
هيا نخرج الدنيا من قلوبنا في هذه العشر و نجعل شعارنا بصدق " لن يسبقني إلى الله أحد" إنها أيام و ليالي قليلة و لكن أثرها و أجرها عند رب العالمين عظيمة فمن حُرم خيرها فقد حُرم , بيَّن الحافظ ابن رجب رحمه الله أنَّ الاجتهاد في العشر الأواخر يكون في ليلها ونهارها، فقال: “وقد قال الشعبيُّ في ليلة القدر: ليلها كنهارها. وقال الشافعيُّ في القديم: أستَحِبُّ أن يكونَ اجتهادُه في نهارها كاجتهادِه في ليلِها. وهذا يقتضي استحباب الاجتهادِ في جميع زمان العشر الأواخر، ليلِه ونهارِه، والله أعلم” لطائف المعارف: ص368.
هيا نعوض غلق المساجد عن الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان بالاجتهاد في بيوتنا مع أولادنا، وإحياء الليل بالصلاة وتلاوة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وغيرها من أوجه الطاعات؛ اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعاً في الأجر والثواب، وتحرياً وطلباً لأجر ليلة القدر التي أخفاها الله جل جلاله عنا؛ ليحصل الاجتهاد في التماسها. فليجتهد كل مسلم في إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان، فمن استطاع أن يقوم الليل كله، فهذا أعلى الدرجات، وكلٌ يجتهد قدر استطاعته، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والأجر على قدر الجهد والمشقة. وما كان أكثر فعلًا واجتهاداً؛ كان أكثر فضلًا وأجراً. والمُعَوَّل على القبول، ربنا تقبل منَّا إنك أنت السميع العليم.
هيا نستمتع بلذة المناجاة وأنات السحر ، ونستنشق عبيرها الأخاذ المنعش للنفس والموقظ للقلب ، كما قال ابن القيم :( لو استنشقت ريح الأسحار ، لاستفاق قلبك المخمور) فيصل العبد إلى اليقين وتمثله عمليا بأماراته التي شرحها ابن القيم كذلك : "من علاماته ( أي اليقين) الالتفات إلى الله في كلّ نازلة ، والرجوع إليه في كلّ أمر ، والاستعانة به في كل حال ، وإرادة وجهه بكلّ حركة وسكون" إلى الحد الذي يجعله بالتقوى التي اكتسبها لو أقسم على الله لأبره ، وينال استجابة الدعاء ، كلما توجه إلى مولاه وفر وسائل الاستجابة ونالها واستشعرها ، كما عبر عنها الرجل الصالح ثابت البناني بقوله:( وإني أعلم حين يستجيب لي ، فتعجبوا من قوله وقالوا : تعلم حين يستجيب لك ربك؟ قال : نعم ، قالوا : كيف تعلم ذلك؟ قال : إذا وجل قلبي واقشعرّ جلدي وفاضت عيناي وفتح لي الدعاء ، فثم أعلم أن قد أستجيب لي)..
أيها الفائزون بمرتبة القبول
التوفيق أن ينادي على العبد الذي تدرج بنجاح في مراتب الصعود الايماني، حتى وصل إلى منصة التتويج ، وهي مرتبة القبول في آخر ليلة من ليالي الشهر ، بأنه من أهل التهنئة ، كما روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان : يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟.وينال الفرحة الثانية وهي فرحة التوفيق والقبول ، كما جاء في الحديث :( للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ) (رواه البخاري).وليعاهد ربه سبحانه وتعالى بعد نجاحه في امتحان العبودية هذا ، وتتويجه مع المتوجين ، بأن يري ربه منه ما يسره دوما بعد انقضاء الشهر ، إلى أن يوفق من جديد لبلوغ الشهر العام المقبل ــ إن كان لعمره بقية ــ ليعاود الرحلة من جديد في مراتب الصعود في مدارج القبول هذه ، لأنه تيقن بمتعة الرحلة وجمال الرفقة ولذة الزاد وحلاوة التوفيق وطعم التتويج ،
جعلنا وإياكم من المتوجين بالقبول المبشرين بالوصول.