بيوتنا قبلتنا الثانية وأبناؤنا سندنا في الحياة، ورسالتنا في الآخرة، وخير استثمار دعاء ولد صالح نتقي بتربيته النار. ولنستثمر أبناءنا في الأسرة ومع الناس بالنية الخالصة لله وبالصدق في الأفعال والأقوال والانتماء المخلص. والتفاؤل الناجح والعمل المثمر تحت الضغوط والبعد عن المبالغة والعناد. استثمار بالمرونة والتروي وشغل أوقات الفراغ والحفاظ على الصحة وتحمل المسئولية. وهذا يحتاج الأب الحليم وليس العنيد. والصديق وليس العدواني. والأب المتوازن مع الأبناء. والأم صمام الأمان والتقوى والرحمة في تكوين شخصية الأبناء.
دور الأخ والأخت في البيت من أوجب الواجبات
هو تكليف من الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم: 6) وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسئولية على عاتق كل مسلم، بقوله: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته)، وقوله (خيركم خيركم لأهله)، وقوله (وإن لأهلك عليك حقًّا). وتكوين البيت المسلم من أوجب الواجبات وخطوة مهمة في طريق الإصلاح والبناء الحضاري الذي التقينا عليه؛ إذ هو الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع المسلم المنشود.
ولأهمية تحقيق التوازي والتوازن في خطوط البناء والدعوة والعلم والعمل المختلفة، وحتى يعلو البيت المسلم المجاهد في الدعوة وتتسع دائرة حركته، ولبناء وتكوين البيت الدعوي (الأب والأم والأبناء ) وخلق التوازن بينه وبين التدافع المطلوب تحقيقه ولنتجنب مخاطر التعويق إن طال إهمال أوتقصير في حقه. فلنقف وقفة بل وقفات وهي من أهم الأولويات في كيفية البناء الداخلي المادي والمعنوي والفكري والإستثمار الحقيقي في البيوت على منهاج النبوة والذي يبين الحقوق والواجبات، والقيم السامية والمبادئ التربوية والمسموح والممنوع، والمقبول والمرفوض، والوصل والقطع. والتي تثمر عن مجموعة من التفاعل والطاعة والثقة والتعاون والعمل المستمر في المجتمع.
من أهم خصائص بيوتنا الدعوية
التنشئة على الإيمان والتقوى
وهي الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود كله، ولقد أولاه الأولون عناية فائقة فتجد السنة المطهرة توجِب أن أول ما يطرق مسامع الوافد الجديد بالأذان في الأذن اليمنى والإقامة في اليسرى ونجد الصحابة حريصين على تعليم أبنائهم وتربيتهم، فكانت أم سليم تربي ابنها أنس بن مالك حتى ضجَّ أبوه المشرك، وقال: لا تفسدي عليّ ولدي ثم هجرها إلى الشام حين وجد إصرارها وحرصها، ثم عهدت به خادما لرسول الله فكان إماما في علم الحديث.
العناية بالطاعات والعبادات
وقد كان الصالحون والصالحات يحرصوا على اصطحاب الصغار لشهود صلاة الجماعة، وكان الصحابة يصوّمون أبناءهم ويحملونهم إلى المساجد بعيدًا عن البيوت ويلهونهم بلعب العهن عن الجوع والعطش حتى ينقضي يوم الصيام.
تمكن قيم الأمانة والصدق ومراقبة الله
وقد كان هذا واضحًا في سلوك الأطفال ومواقفهم. وقد رأيناه في موقف الابنة التي رفضت غش اللبن قائلةً كلمتها الخالدة: "إذا كان عمر لا يرانا، فإن ربَّ عمر يرانا"، فلا عجب إذن أن يخرج من نسلها حفيدها الصالح عمر بن عبد العزيز. ورأيناه أيضًا في موقف الأم التي كانت تنادي ابنها وقد أطبقت يدها قائلة: تعال أعطِك.. فيراها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيسأل (ماذا أردت تعطيه؟) فتنفرج عن تمرة فيقول- صلى الله عليه وسلم (لو لم أجد هذه لكُتبت كذبة).
سمو الاهتمامات
حيث كان القول المأثور للزوجة الصالحة وهي تودع زوجها أول النهار: اتقِ الله ولا تطعمنا إلا من حلال فإنا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار، ثم تبادره عند استقبالها إياه آخر النهار بقولها ماذا نزل اليوم من الحق؟ يا الله أين واقع الناس الآن من هذه الآفاق المشرقة؟ فيعيشون ما بين تقوى الله والتلاوة والتزكية والتعليم
المشاركة في كل متطلبات الدعوة والاعتزاز بذلك
فهذه أم سليم لا تجد ما تنفقه في سبيل الله ولكنها مع ذلك تشبع رغبتها في البذل بوهبها ابنها أنسًا خادمًا لرسول الله، وهذه أخرى تذهب بغلامها إلى ساحة القتال وتعطيه سيفًا فلا يقدر على حمله فتربطه في ساعده وتقدمه أمام الرسول- صلى الله عليه وسلم- ثم تقف ترقبه غير بعيد فتأتيه إصابة ينفجر على أثرها دمه. وهذه نسيبة بنت كعب الأنصارية تخرج إلى أُحد مع زوجها وابنها وتثبت إلى جوار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين انكشف الأبطال وأثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على هذا الموقف الفذ بقوله (ما التفت يمنة ولا يسرة إلا وجدتها تقاتل دوني)، ويقول لابنها (لمقام أمك اليوم خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك (زوج أمك) خير من مقام فلان وفلان..) رحمكم الله أهل بيت: فتبادر هذه الصداقة باغتنام الفرصة وتطلب من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأن يدعو لهم بمرافقته في الجنة فيفعل فتقول: ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا. وإنما ضرب المثل هنا بالنساء لفضلهن وبذلهن وهي في حق الرجال أوجب وأعظم.
مراعاة هدي الرسول في كل شئون الحياة المنزلية
ومن ذلك الطعام والشراب والنوم والدخول والخروج والتحية واللغة والأثاث وغيرها. وللإسلام أدبه وهديه في كل أمر من هذه الأمور. وعلى الزوجين أن يتعاونا على معرفته والتزامه حتى تكون بيوتنا نماذج يحتذى بها ومشاعل يستضاء بنورها.
مراعاة قيم الجمال والنظافة والنظام
فإنها سمة ظاهرة في البيوت المسلمة بحق تتميز عن غيرها فقد قال- صلى الله عليه وسلم (إن الله طيب يحب الطيب جميل يحب الجمال نظيف يحب النظافة جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود).
تحصين البيت ضد التلوث الخلقي
فيجب على الزوجين أن يكونا على يقظة تامة وفي حالة التأهب القصوى لسد المنافذ أمام جراثيم العلل الخلقية والاجتماعية والإعلامية، وذلك بمقتضيات المسئولية التي جملنا إياها رسول لله- صلى الله عليه وسلم- بقوله (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته)، وكذلك لصد غارات التخريب والإفساد التي يشنها الأعداء في الداخل والخارج.
مراعاة المقامات وحفظ الحقوق
فالزوجان يحكم علاقتهما التوجيه الرباني الكريم ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم: من الآية 21)، والأبوان بحفظ حقهما ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (النساء:من الآية 36) والأخوة تقوم الصلة بينهم على أساس قوله- صلى الله عليه وسلم ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)، والقربات والأرحام: ترد الوصية بهم في مثل قوله- صلى الله عليه وسلم-: (برْ أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك وأدناك)، وقوله (الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته).
الاقتصاد في المعيشة
والتوسط في النفقة بلا تقتير ولا تبذير عملًا بقوله ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 31)، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ (الإسراء:29). وهذه ميمونة رضي الله عنها ترى حبة رمان ملقاة على الأرض فتلتقطها وتقول: (والله لا يحب الفساد)، وما أحوج الأمة إلى هذه المعاني خصوصًا في هذه الأوقات العصيبة.
مراعاة حقوق الجيران ومن ذلك
وذلك بدعوتهم إلى الخير والصلاح: امتثالًا لأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم (ليعلمن قومٌ جيرانهم وليعظنهم، وليأمرنهم، ولينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون، أو لأعاجلنهم العقوبةَ في الدنيا). وكذلك البر والإحسان هي وصية رسول- صلى الله عليه وسلم (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وأيضا بمراعاة المشاعر: باتباع الآداب السامية الرائعة الواردة في قوله- صلى الله عليه وسلم (ولا تستطل عليه بالبناء لتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذه بقتار مدرك إلا تغترف له منه).
الكرم والشهامة والنجدة
وقد كان هذا حال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قبل بعثته، وقد أخبرت السيدة خديجة عنه بقولها: (والله لن يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق)، وقد جعل الرسول- صلى الله عليه وسلم- الكرم عنوانًا على الإيمان فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وهكذا يكون البيت المسلم كريمًا مضيافًا مسارعًا في النوازل والملمّات بالنجدة والمواساة، فيقدم بذلك الصورة المشرقة لهذا الدين، ويجيب القلوب فيه ويكسبها لصفه.
ونستكمل في الرسالة الثانية كيف يتحرك البيت بالدعوة عمليا (مسارت العمل للبيت الدعوي).