لم تكن الصور الواردة من جبهة غزة والتي أوردتها وكالة (رويترز) للأنباء خلال الأيام الأولى للحرب البرية التي شنَّها الكيان الصهيوني على قطاع غزة لجنودٍ وضباطٍ صهاينة يقرؤون التَّوراة أو يصلون على دباباتهم وبجوار ذخيرة مدافعهم، والتي استهدفت أطفال وعجائز غزة.. لم تكن هذه الصور فريدةً من نوعها أو مستغربةً، ولم يكن أيضًا لها فضلُ سبقٍ صحفيٍّ؛ حيث إنَّ الصور لم تكن مأخوذةً تحت خطِّ النَّار، وإنَّما تعود قيمة الصور إلى أمرٍ آخر شديد الأهمية.
هناك من يتبنَّى الخط الرسمي للحكومات فيما يخص الصراع العربي- الصهيوني والقضية الفلسطينية، وينفي أيِّ بعدٍ دينيٍّ للصراع والقضية.
ومع طغيان المد القومي العربي وتغلغل الشيوعية الدولية في الشرق الأوسط والحرب الرهيبة التي شنَّتها كثير من حكومات المنطقة على التيار الإسلامي؛ ظهرت العديد من الدعاوى التي تقول إنَّ الصراع بين العرب والفلسطينيين وبين شذَّاذ الآفاق من الصهاينة إنَّما هو صراعٌ قوميٌّ وليس دينيًّا.
ولعل البعض قائلٌ بأنَّه لا تثريب على جنديٍّ أو ضابطٍ يهوديٍّ متديِّنٍ رأى أداء الصلاة رغبةً منه في الحصول على بركة الرب وتوفيقه أثناء الحرب على أطفال غزة ونسائها، ولكننا نردُّ على هؤلاء أيضًا بالقول بأنَّ الصهاينة لم يقتصروا في إشاراتهم حول دينية الصراع في فلسطين خلال أزمة غزة الأخيرة، وإنَّما أكدوها بالفتاوى التي لا لبس فيها، مع ما جاء بها من معالم ومعانٍ، ومع طبيعة الأفراد والهيئات التي أطلقتها خلال الحرب، والتي لا تدع هويتها مجالاً للشكِّ في أنَّها- أي هذه الفتاوى- تعبِّر عن رأي وموقف المجتمع الصهيوني كله.
اسحقوا غزة.. انشروا الرعب
بهذه الكلمات عبَّر إيلي يشاي زعيم حزب شاس الصهيوني الديني المتطرف عن رأيه ورأي حزبه في الحرب الدموية التي شنّوها على غزة، ونقلت عنه صحيفة (المعاريف) الصهيونية في عددها الصادر في 7 يناير 2009م النص الآتي: "هناك حاجة ماسة من قِبَلِ "إسرائيل" لنشر حالة من الرعب والفزع في غزة.. يجب تسوية القطاع بالأرض وسحقه عن بكرة أبيه؛ حتى لا يجدوا سبيلاً لشغل أنفسهم بنا بعد ذلك".
وأضاف يشاي عبارةً لافتةً للغاية في شأن تحديد طبيعة الصراع الذي كان دائرًا في قطاع غزة؛ حيث قال: "في النهاية ستنتصر التوراة".
حزب شاس لا يملك مرجعيةً سياسيةً، وإنَّما دينيةً، فزعيمه الروحي ليس سياسيًّا من وزن الهالك إرييل شارون أو ديفيد بن جوريون، بل هو حاخامٌ متطرف اسمه عوفاديا يوسف.
فتاوى سوداء
وقد يقول قائل أيضًا إنَّ شاس في النهاية حزبٌ سياسيٌّ له برنامجه، ولا يمثل المؤسسة الدينية الرسمية الموجودة في الكيان الصهيوني، وهؤلاء أيضًا يُرَدُّ عليهم؛ حيث أصدر العديد من الحاخامات اليهود فتاوى خلال المحرقة التي استمرت 22 يومًا في غزة تتناقض مع تعاليم جميع الأديان السماوية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والتي تناهض العنصرية، وتمنع منعًا باتًّا استهداف المدنيين العزل في الحروب.
ولنقرأ بعض هذه الفتاوى:
* صحيفة (اليديعوت أحرونوت) نشرت يوم الإثنين 19 يناير فتوى للحاخام شموئيل إلياهو رد فيها على سؤال مفاده: "هل يجوز قتال النساء والأطفال في الحرب؟!"، وقال إلياهو حرفيًّا: "في حال ما يكون هؤلاء الأطفال والنساء وسط الرجال من أعداء "إسرائيل"؛ فإنه من المباح أن يقوم الجيش بما قام به البطل التوراتي اليهودي "شمشون" من هدم المعبد فوق رأس الجميع بلا تمييزٍ".
الصحيفة الصهيونية ذاتها رأت أنَّ استخدام الفتاوى الدينية لتبرير استهداف المدنيين خلال الحروب التي يشنُّها الكيان الصهيوني على الفلسطينيين والعرب تزايدت في الداخل مع بدء انتفاضة الأقصى الثانية في سبتمبر من العام 2000م، إلا أنَّها صدرت بشكلٍ أقوى لا لبس فيه خلال الحرب الأخيرة على غزة.
![]() |
عدد كبير من الأطفال استشهدوا خلال الهجمة الصهيونية |
* نشرت صحيفة (الهاآرتس) الصهيونية يوم الإثنين 12 يناير الحالي فتوى لحاخامات صهاينة قالوا فيها إنَّه "يتوجب على اليهود تطبيق حكم التوراة الذي نزل في قوم عملاق (أحد الأقوام التي ورد في التوراة أنها حاربت اليهود) على الفلسطينيين، وهو الحكم الذي ينص على قتل الرجال والأطفال وحتى الرضع والنساء والعجائز منهن، وسحق البهائم".
وكان الحاخام يسرائيل روزين رئيس معهد تسوميت أحد أهم مرجعيات الإفتاء لدى اليهود قد أصدر فتوى مماثلةً في 26 مارس 2008م الماضي، عقب بعض الهجمات التي تعرَّض لها قطعان المغتصبين الصهاينة في القدس المحتلة، وقال فيها: "يتوجب تطبيق حكم عملاق على كل من تعتمل كراهية "إسرائيل" في نفسه".
وتلا روزين الحكم الذي يقول- بحسب توراتهم-: "اقضوا على عملاق من البداية حتى النهاية.. اقتلوهم وجرِّدوهم من ممتلكاتهم، لا تأخذكم بهم رأفة، فليكن القتل متواصلاً.. شخص يتبعه شخص، لا تتركوا طفلاً، لا تتركوا زرعًا أو شجرًا، اقتلوا بهائمهم من الجمل حتى الحمار".
* الحاخام الأكبر لمدينة صفد شلومو إلياهو، قال: "إذا قتلنا 100 دون أنْ يتوقفوا عن ذلك (يقصد إطلاق الصواريخ) فلا بد أنْ نقتل منهم ألفًا، وإذا قتلنا منهم ألفًا دون أنْ يتوقفوا فلنقتل منهم 10 آلاف، وعلينا أن نستمر في قتلهم، حتى لو بلغ عدد قتلاهم مليون قتيل، وأنْ نستمر في القتل مهما استغرق ذلك من وقت".
* نشرة "عالم صغير"، وهي عبارة عن كتيبٍ أسبوعيٍّ يوزع في المعابد اليهودية كل يوم جمعةٍ، صدرت في عددها الأخير حاملةً رسالةً من الحاخام مردخاي إلياهو، والذي يعتبر المرجعية الدينية الأولى للتيار الديني القومي في الكيان الصهيوني (والذي تمثله سياسيًّا وبرلمانيًّا حركتا شاس وإسرائيل بيتنا)، وجهها إلى رئيس الوزراء الصهيوني المستقيل إيهود أولمرت، ومن وصفتهم الرسالة بـ"قادة إسرائيل"، ذكر فيها قصة وردت في سفر التكوين حول مجزرة تعرَّض لها أحد الشخصيات التاريخية لبني إسرائيل ويُدعى "شكيم بن حمور" كدليل على أنَّ التوراة "تُبيح لليهود العقاب الجماعي لأعدائهم وفقًا لأخلاقيات الحرب"!.
وورد في هذه الرواية التوراتية أنَّ شكيم هذا قد أخطأ مع إحدى بنات اليهود، فأتى أهلَها يطلبها للزواج، ولكنهم خدعوه حتى تمكَّنوا من المدينة التي يسكن فيها، وقتلوا كل سكانها، انتقامًا لشرف ابنتهم.
![]() |
إيهود أولمرت |
وقال إلياهو في رسالته: "هذا المعيار نفسه يمكن تطبيقه على ما حدث في غزة؛ حيث يتحمل جميع سكانها المسئولية؛ لأنهم لم يفعلوا شيئًا من شأنه وقف إطلاق صواريخ القسام"، ودعا هذا الحاخام المجرم رئيس وزرائه الضعيف الفاسد إيهود أولمرت إلى مواصلة شنِّ الحملة العسكرية على غزة، معتبرًا أنَّ "المس بالمواطنين الفلسطينيين الأبرياء أمرٌ شرعيٌّ".
* الحاخام دوف ليئور رئيس ما يُعرف باسم "مجلس حاخامات المستوطنات في الضفة الغربية" قال في تصريحاتٍ صحفيةٍ نشرتها الصحف العبرية: إنَّه يؤيد الفتاوى التي ظهرت في الأيام الأخيرة بقتل المدنيين الفلسطينيين، وشاركه في ذلك رئيس المجلس البلدي اليهودي في القدس المحتلة.
* في أيام الحرب الأخيرة صادق عدة حاخامات على فتوى تسمح للجيش الصهيوني بقصف المناطق السكنية في قطاع غزة، مشيرين إلى أنَّه "على الجيش قصف المناطق التي تطلق منها الصواريخ في غزة، ولكن بعد أنْ يمهل الجيش سكانها وقتًا للإخلاء"، ومن بين الحاخامات الذين صادقوا على الفتوى الحاخام المتطرف عوفاديا يوسف الأب الروحي لحزب شاس؛ الذي يمثل سياسيًّا وبرلمانيًّا أكثر من مليون صهيوني في الكيان.
* وفي ذات الاتجاه الخاص بضرب المناطق السكنية في قطاع غزة أفتى الحاخام آفي رونتسكي بأنَّ "أحكام التوراة تُبيح قصف البيوت الفلسطينية من الجوِّ على من فيها، ولا يجب الاكتفاء بقصف مناطق إطلاق الصواريخ، فالواقع يلزم بضبط الناشطين، وهم في فراشهم وفي بيوتهم".
مع الوضع في الاعتبار أنَّ هذه الفتاوى هي فقط التي صدرت خلال الحرب ولا تشمل ما صدر في السنوات السابقة من فتاوىً عنصريةٍ مماثلةٍ؛ ففي مارس الماضي أفتى حاخامات يهود صهاينة- وبعضهم من مدرسة "مركاز هاراب" الدينية المتطرفة- بقتل "الفلسطينيين الأعداء"، وقالوا لطلبة المدرسة: إنَّهم بقتل هؤلاء "ستحل عليهم (أي على الطلاب) البركة".
جيش متدين
في بدايات سنوات الكيان الصهيوني العنصري في فلسطين المغتصبة حرص القادة الصهاينة على إضفاء بعدٍ علمانيٍّ على الدولة الوليدة ومؤسساتها؛ رغبةً منهم في عدم إبراز كافة نوايا ومخالب المشروع الصهيوني القذر ومستهدفاته في العالم العربي والإسلامي.
ولذلك كان التخطيط أنْ يظل الجيش الصهيوني مؤسسةً علمانيةً؛ سواءٌ على مستوى العقيدة القتالية أو على مستوى انتماءات الأشخاص الذين يتولون قيادته، وحتى الجنود؛ فوزير الحرب الصهيوني الهالك موشيه ديان على سبيل المثال كان ملحدًا، وكان يضع كلمة "بدون" في خانة الديانة في بطاقة هويته، وكذلك كان رئيس الوزراء الهالك إسحق رابين.
وكان العلمانيون يمثلون أكثر من 95% من ضباط الجيش، وكان اليهود الحريدييم أو المتدينين، لا يؤدون الخدمة العسكرية، وكانوا ينظرون لمشروع "إسرائيل" في فلسطين المحتلة على أنَّه مخالفة توراتية واضحة، وأنَّ مشروع تأسيس دولةٍ لليهود في فلسطين أمر لا يزال تاريخيًّا غير ملائمٍ زمنيًّا.
![]() |
بنيامين نيتانياهو |
إلا أنه ومنذ سنواتٍ بدأ اليهود المتدينين في أداء الخدمة العسكرية، وكان من أبرز داعمي هذا الاتجاه رئيس الوزراء الأسبق وزعيم الليكود الحالي بنيامين نيتانياهو، وزادت نسبة هؤلاء في الجيش الصهيوني من 3% قبل أقل من 10 سنواتٍ إلى 60% حاليَّا، وتقول وسائل إعلام صهيونية يسارية: إنَّ الشئون المعنوية والتثقيف الديني والتلقين الفكري الذي يتلقَّاه اليهود الذين يخدمون في الجيش الصهيوني يتلقَّونه على يد أكثر الحاخامات تطرفًا في الكيان الصهيوني.
اليوم ومع ما حدث في غزة أكثر قليلاً من نصف الجيش الصهيوني من المتديِّنين؛ فكيف سيكون الحال بعد عقدٍ آخرٍ من الزمان؟!
وفي النهاية نذكِّر بشيءٍ لافتٍ.. لا يجب أنْ ننسى أن الحاخام إسحاق جينزبرج أحد مرجعيات الإفتاء اليهودية قد وضع كتابًا بعنوان "باروخ البطل" تخليدًا لاسم باروخ جولدشتاين الذي نفَّذ مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994م، والتي استُشهد فيها 29 فلسطينيًّا أثناء أداء صلاة الفجر، ولا يجب أيضًا أنْ ننسى أنَّ حاخامات الكيان الصهيوني أفتَوا بعد ذلك بسنواتٍ بأنَّ جولدشتاين بعد تلك المجزرة صار "قديسًا"؛ أي أنَّه "تطهر"- بالمعايير الدينية اليهودية الصهيونية- بدماء العرب والمسلمين!.