بقلم: أحمد هلال
المعركة الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني ليست مجرد جولة عسكرية، بل هي معركة إستراتيجية أثبتت فيها المقاومة قدرتها على إسقاط مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، كما أن هذه الجولة أكدت أن المقاومة هي الخيار الوحيد القادر على حماية الحقوق الفلسطينية وإفشال مخططات الاحتلال.
إن هذا الصمود، الذي دفع الاحتلال إلى إعادة حساباته، يشير إلى أن المستقبل سيشهد تغيرًا جذريًا في معادلات الصراع، وستبقى القضية الفلسطينية عصية على محاولات الطمس والتصفية.
أسقطت المقاومة منظومة الردع الصهيونية الكاذبة وحطمت مشروعاً استعمارياً لمنطقة الشرق الأوسط، وأجهزت على الأسااطير المزعومة للاحتلال التي كان يفتخر بتفرده بها في الشرق الأوسط.
ومن رحم المعاناة وأنياب الحصار خرج طوفان الأقصى ليبعثر تلك الأوراق ويهدم الخطط الأمريكية للمنطقة ويجهز على مشروع ابتلاع المنطقة لصالح استعمار يريد أن يبقى لمدة مائة عام أخرى!
إن نموذج المقاومة الإسلامية المنضبطة هو نموذج متماسك وشفاف ونظيف وعقلاني ومحدد الأهداف والإستراتيجية، يتمتع بعلاقات دبلوماسية عالية وقبول واستحسان عالمي، ومختلف تماماً عن حالات المقاومة التي تمت صناعتها استخبارياً لتنفيذ أجندة دولية وإفراغ نموذج الجهاد من مضامينه الأخلاقية وإهدار سمعة المجاهدين وتصدير فزاعة الإسلاموفوبيا في العالم.
شهدت الأسابيع الماضية مواجهة حاسمة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، انتهت باتفاق وقف إطلاق النار الذي حمل في طياته أبعادًا تتجاوز ما هو ظاهر. فقد أسقطت هذه الجولة مجموعة من المشاريع والخطط الصهيونية والغربية التي كانت تهدف لتصفية القضية الفلسطينية وتغيير المعادلات الإستراتيجية في المنطقة. وفيما يلي قراءة تحليلية في أبرز النقاط التي تم إسقاطها خلال هذا الصراع.
1. سقوط صفقة القرن:
"صفقة القرن" كانت محاولة لفرض واقع جديد في المنطقة يضمن تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها إلى ملف إنساني بحت. غير أن المقاومة الفلسطينية، ومن خلفها الدعم الشعبي العربي والإسلامي،والعالمي رفضت هذه الصفقة بكل تفاصيلها، وأكدت من خلال صمودها الأخير أن القضية الفلسطينية ليست قابلة للبيع أو المقايضة.
2. التهجير إلى سيناء:
منذ سنوات، عملت بعض القوى على تسويق فكرة توطين الفلسطينيين في سيناء كجزء من الحل النهائي للقضية الفلسطينية. إلا أن صمود المقاومة والالتفاف الشعبي حولها قطع الطريق على هذه المؤامرة، وأثبت أن الشعب الفلسطيني متمسك بأرضه، رافضًا أي مشاريع تستهدف تهجيره قسرًا.
واليوم يعود النازحين بدون تفتيش بدون قيد أو شرط إلى مدينة غزة وشمال القطاع.
3. طمس القضية الفلسطينية:
برغم محاولات الاحتلال لخلق أزمات داخلية في المنطقة العربية وصرف الأنظار عن القضية الفلسطينية، أثبتت المقاومة أن فلسطين ستبقى في صدارة المشهد، وأن كل المحاولات لطمس هذه القضية ستتحطم أمام إرادة الشعب الفلسطيني.
انشغل الإعلام قليلا بالمشهد السوري بينما كان الاحتلال يحاول احداث حالة من الإنتصارات المتسارعة دون تغطية إعلامية مكثفة، لكنها تكبدت خسائر فادحة اجبرتها على قبول ما رفضته في السابق.
4. القضاء على حماس وقادة القسام:
كان الاحتلال الصهيوني يسعى منذ سنوات للقضاء على حركة حماس وكتائب القسام باعتبارهما رأس الحربة في مقاومة الاحتلال. ومع ذلك، أثبتت حماس خلال المعركة الأخيرة أنها ليست مجرد تنظيم عسكري، بل حالة شعبية متجذرة، وأن أي محاولة لتفكيك بنيتها ستواجه بفشل ذريع.
وكما يقول أحد الباحثين: إنّ العدو اليومَ يعدّ العدة للقضاء على هذا النموذج العقلانيّ، وتحويله إلى رماد، مثلما فعلوا مع ربيعنا العربي، إنهم في ورطة كبيرة، فنجاح "حماس" يعني أن يشتعل الربيع العربي من جديد ويعيدُ السياسيين الإسلاميين ليكونوا أملَ الشعوب المتعطشة للحرية؛ لأنه المشروع الذي سينجح فيما فشلت فيه كلّ الحكومات التي تحكم الشعوب بفتاوى السلاطين أو بتحالفات العِلمانيين معها.
قَدح "طوفانُ الأقصى" روحَ المقاومة مجدداً في الأمّة، وكانت هذه المرّة ليست كسابقاتها!، فالنموذج الحمساويّ امتاز بـ(العقلانية القتالية)، وهو أشدّ نموذجٍ يخشاه الاحتلال الصهيوني ومن خلفه الغرب وأمريكا وصهاينة العرب.
إنّها عقلانيةٌ هدفها واضحٌ، وقيادتها معروفةٌ، وتاريخها ناصع بالبياض وبالشهداء، لها رؤيةٌ استراتيجيةٌ، وتعرف دائرة الصراع وحدوده، تمتلك تحالفاتٍ إقليميةً وعلاقاتٍ دوليةً، والأهم من ذلك جميعه هو أنّها تحظى بتأييد الشعوب العربية والمسلمة لها بوصفها حركة تحرر من الظلم والطغيان والاستبداد.
5. تفكيك سلاح المقاومة:
طالب الكيان الصهيوني والولايات المتحدة مرارًا بتفكيك سلاح المقاومة كجزء من أي حل سياسي. لكن المقاومة استطاعت في المعركة الأخيرة استخدام هذا السلاح بفعالية كبيرة، لتؤكد أن السلاح هو الضامن الحقيقي لحقوق الشعب الفلسطيني، ولا يمكن التخلي عنه.
6. خطة تحويل غزة إلى فنادق ومنتجعات:
روج جاريد كوشنر، مهندس "صفقة القرن"، لفكرة تحويل غزة إلى منطقة اقتصادية وسياحية مزدهرة مقابل التخلي عن المقاومة. غير أن غزة، التي وقفت صامدة أمام أعتى الهجمات، أثبتت أنها ليست للبيع أو المساومة، وأن سكانها يفضلون الكرامة والمقاومة على وعود الرفاهية الزائفة.
7. خطة الجنرالات:
عمل الاحتلال على تبني خطط عسكرية أعدها جنرالات سابقون للقضاء على المقاومة في غزة. إلا أن هذه الخطط انهارت أمام الأداء العسكري المتميز للمقاومة، التي استطاعت فرض قواعد اشتباك جديدة قلبت المعادلة لصالحها.
8. انهيار المستوطنات والانسحاب من "نتساريم" و"فيلادلفيا":
المستوطنات والمناطق العازلة، التي حاول الاحتلال التمسك بها كجزء من خططه للسيطرة على غزة، تحولت إلى عبء أمني واستراتيجي عليه. وقد أدت المقاومة إلى انسحاب الاحتلال من بعض المناطق الحيوية وإعادة النظر في تموضعه داخل غزة وحولها.
9. الرهائن مقابل تبادل وليس بالسلاح:
أثبتت المقاومة أنها تدير ملف الأسرى بمهارة سياسية وعسكرية، حيث استطاعت فرض شروطها في قضية تبادل الرهائن، مما أدى إلى نتائج غير مسبوقة، دون أن تقدم تنازلات تتعلق بسلاحها أو ثوابتها الوطنية.وكما وعد قادة المقاومة أنه لا رهائن من دون تفاوض، وقد أنجزت المقاومة وعدها وأصبح قيد التنفيذ.
آثار وقف إطلاق النار على الداخل الصهيوني
اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال لم يمر مرور الكرام داخل الساحة الصهيونية. فقد أثار حالة من الجدل والانقسام بين الأطراف السياسية والعسكرية، وفتح الباب أمام سلسلة من التداعيات التي قد تُعيد تشكيل الخريطة السياسية في الكيان. وفيما يلي أبرز التأثيرات والمتغيرات المرتقبة:
1. اهتزاز صورة حكومة الاحتلال:
فشل في تحقيق الأهداف المعلنة: كانت حكومة الاحتلال قد أعلنت عن أهداف عسكرية كبرى في هذه الجولة، مثل القضاء على البنية التحتية للمقاومة أو اغتيال قادتها، لكنها فشلت في تحقيق ذلك. هذا الفشل أضعف صورة حكومة الاحتلال، خاصة أمام جمهورها اليميني الذي ينتظر حسمًا عسكريًا دائمًا.
زيادة الضغوط على نتنياهو:
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سيواجه انتقادات متزايدة من المعارضة، وربما حتى من حلفائه في اليمين الإرهابي، بسبب ما يُنظر إليه على أنه "رضوخ" للمقاومة والقبول بإتفاق لا يلبي تطلعات الصهاينة الأمنية.
2. تصاعد الإنقسام الداخلي:
خلافات بين الأوساط السياسية: إتفاق وقف إطلاق النار أظهر انقسامًا واضحًا بين التيارات السياسية الصهيونية المعارضة، بقيادة يائير لابيد وبيني جانتس، ستستغل الاتفاق لمهاجمة حكومة نتنياهو، متهمة إياها بالفشل في حماية الصهاينة وتحقيق الردع.
3.تراجع الثقة في القيادة العسكرية:
هناك شعور متزايد داخل المجتمع الصهيوني بأن الجيش لم يعد قادرًا على مواجهة المقاومة الفلسطينية بشكل فعال، مما يعمق الانقسام بين القيادة العسكرية والسياسية.
4. صعود اليمين الصهيوني:
استغلال الوضع: التيارات اليمينية الإرهابية ستستغل هذا الاتفاق لتأجيج مشاعر الغضب بين المستوطنين والجمهور الصهيوني، والدعوة إلى سياسة أكثر تطرفًا تجاه الفلسطينيين.
تعزيز خطاب القوة: قادة اليمين، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، سيطالبون باتخاذ خطوات أكثر عدوانية ضد غزة، وقد يدفعون باتجاه مشاريع استيطانية جديدة لتعويض ما يرونه "تراجعًا" في الردع.
5. زعزعة الاستقرار في المجتمع الصهيوني:
حالة الخوف وعدم الأمان: الاتفاق لم يحقق شعورًا بالأمان لدى الصهاينة، خصوصًا سكان المناطق المحاذية لغزة. فقد أظهرت المقاومة قدرة عالية على تهديد العمق الإسرائيلي بالصواريخ والعمليات النوعية، مما سيزيد من حالة القلق والتوتر الاجتماعي.واصبح إعادة المستوطنين إلى غلاف غزة من الأماني صعبة التحقيق!!
احتجاجات مستمرة: قد يشهد الاحتلال موجة من الاحتجاجات الشعبية، خاصة من سكان المناطق الجنوبية الذين يشعرون بأنهم يدفعون ثمن السياسات الحكومية الفاشلة.
5. تغير الأولويات السياسية:
اهتمام أكبر بالجبهة الداخلية: الفشل في غزة قد يدفع السياسيين الصهاينة إلى التركيز أكثر على معالجة الأزمات الداخلية، مثل الاحتجاجات ضد الإصلاحات القضائية، والأزمات الاقتصادية، والاحتقان المجتمعي.
إعادة تقييم الاستراتيجية العسكرية: قد يشهد الكيان الصهيوني إعادة هيكلة لمنظومته الأمنية والعسكرية، مع التركيز على تطوير وسائل جديدة لمواجهة المقاومة الفلسطينية التي أثبتت تفوقها في إدارة الصراع.
6. تأثير على الانتخابات المبكرة المحتملة:
تعميق أزمة الشرعية السياسية: إذا استمرت حالة السخط الشعبي، فإن ذلك قد يدفع نحو تسريع الدعوات لإجراء انتخابات مبكرة. وستكون هذه الانتخابات، في حال إجرائها، ميدانًا للمزايدة بين الأحزاب حول كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية.
فرص المعارضة:
المعارضة في الكيان الصهيوني ستستغل هذه اللحظة لإضعاف نتنياهو وحلفائه، من خلال التركيز على إخفاقاتهم الأمنية والسياسية، مما قد يعيد تشكيل التحالفات السياسية داخل الكنيست.
مكتسبات وقف إطلاق النار
اتفاق وقف إطلاق النار أعاد تسليط الضوء على التحديات الداخلية التي تواجه الاحتلال، من انقسامات سياسية وأزمات اجتماعية، وصولًا إلى تراجع ثقة الجمهور في الحكومة والجيش. ومع استمرار المقاومة الفلسطينية في فرض معادلاتها على الأرض، ستظل الساحة الصهيونية تعيش حالة من التوتر وعدم الاستقرار، مع احتمالية حدوث تغييرات سياسية جوهرية في المرحلة المقبلة.
لقد بات الاحتلال في موقف حرج للغاية وكل المآلات لتلك الضربة الموجعة والمؤلمة تشكل هزيمة، حيث إن قبول التفاوض حول الأسرى بمثابة نصر سياسي للمقاومة، ورفض التفاوض حول الأسرى يشكل ضغطاً شعبياً ضد جيش الاحتلال وحكومته.
وإن استمرارية المعركة تعني نصراً عسكرياً للمقاومة وارتفاع أعداد الضحايا والخسائر، ووقف إطلاق النار إعلان بالهزيمة وضياع هيبة وسمعة جيش الاحتلال.
كل الخيارات مؤلمة وليس للعدو خطة استراتيجية للتعامل مع الحرب بعد تعقيداتها وكيفية الخروج منها أو إيقافها، ومن الواضح لدينا أن وقف إطلاق النار سوف تنطلق معه نيران أخرى في الداخل الصهيوني المنهزم، وسوف تتغير الأوضاع وتتفجر مشكلات كبرى يشتعل معها الخلاف نتيجة عدم الاعتراف بالمسئولية عن أحداث السابع من أكتوبر!
سوف تكون المعركة الداخلية تبعاتها ونتائجها مهددة بسقوط الكيان الصهيوني، وسوف يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.
الكيان الغاصب يعيش الألم والفشل وحالة الخيارات المؤلمة، وهذا هو المستقبل القريب الذي ينتظره.