وائل قنديل

أيّهما أخطر على البشرية: سباق التسلّح النووي أم التسابق نحو المصلحة الماديّة تحلّلاً من الاعتباراتِ الأخلاقيّة؟ ... الشاهد أنّه على الرغم من كوارث التصادم نوويّاً في نهاياتِ الحرب العالميّة الثانية، وبعد الجريمة الأميركية ضدّ هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، لم يتعرّض الكوكب للفناء، ولم يدخل العالم في حربِ الكلِّ ضدّ الكلّ، ليس لأنّ حجم الجريمة الأميركية غير الأخلاقيّة لم يكن هائلاً بما يكفي لإحراق العالم، وإنّما لأنّ البشرية قرّرت، في لحظةٍ مفصليّةٍ، أن تعتصم بالحدِّ الأدنى من القيم الأخلاقية، وتقاوم الدمار الذاتي.

قبل أيّام، كانت اليابان تُحيي ذكرى المأساة التي قتلت نحو ربع مليون إنسان، قتلتهم الولايات المتحدة لإجبار اليابان على الاستسلام التام، فهل استسلمت اليابان بعد تدميرها وذهبت راكعةً أمام سيّد القوّة، وسلّمت بأن تكون خادمة مطيعة، وتُضرم النار في أحلامها القوميّة؟

لو نظرت إلى قوّة اليابان الاقتصاديّة والعلميّة والأخلاقيّة حالياً مقارنة بالقوّة الأميركية الغاشمة ستجد الأولى أسبق بمئات المراحل على مضمار الحضارة والإنسانيّة، وتذكّر أن ما يحاول الاحتلال الصهيوني فرضه على الشعب الفلسطيني هو أبشع بكثير من محاولة أميركا مع اليابان، مع فارق هائل وجوهري، أنّ صلابة العالم أخلاقيًا في زمن هيروشيما وناجازاكي كانت أكبر ممّا هي عليه في العدوان الصهيوني على غزّة.

مجدّدّاً، يثور الجدل في هذه الأيّام عن تناول الأخلاق والسياسة بمعيار المصلحة، إن داخليّاً على مستوى الدولة والمجتمع الواحد، أو على نطاقاتٍ أوسع، علاقات إقليمية ودوليّة، مع سيادةٍ واضحة لمنطق المصلحة والمنفعة أولاً، وهو المنطق الذي تتبناه وتدفع به القوى النافذة في العالم، وتحارب من أجله، مستهدفةً هؤلاء "الأخلاقيين الغرباء" الذين يخرجون في مظاهراتٍ غاضبة في المدن والجامعاتِ الأميركيّة والدوليّة، يتصدّون لما يروْنه سياسات دوليّة تُعادي القيم الأخلاقية والإنسانية وتنحاز للظلم والقبح والبلطجة السياسيّة والعسكريّة، ويقاومون ببسالةٍ أخلاقيّة فادحة الأثمان ما يشبه توافقًا بين أقوياء العالم على تغييب القانون الدولي والإنساني والأخلاقي، بما يستتبعه ذلك من استهانةٍ مقصودةٍ بالهيئات الأمميّة والمنظماتِ الدوليّة، المعنية بالذود عن هذه القوانين والقيم، كما جرى في التجاهل المُهين لكلّ القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والجنائية الدولية ضدّ الجريمة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني.

بمواجهة ذلك العوار السياسي والانحطاط الأخلاقي، ثمّة مقاومة أخلاقية يخوضها أحرار العالم في الدول التي تسمّي نفسها العالم الأوّل، وتعتبر نفسها معيار التحضّر. أمّا في الدول المنكوبة بطغيانٍ محمي، سياسيًا وماديًا وعسكريًا، من حكوماتِ العالم الأوّل، فإنّ التواطؤ على تغييب القانون، الوضعي والأخلاقي، ينتقل من الأنظمة إلى الشعوب المقهورة، فتكيّف نفسها على الاستمرار على قيد الحياة وفقًا لقانون الغابة، سيادة القوة والمصلحة المادية، لا سيادة القانون والقيم الأخلاقية، وتلك هي الكارثة الحقيقيّة التي تُنذر بخراب هذه المجتمعات التي يدفعها الخوف في لحظةٍ واحدة إلى التخلّي عن كلّ ما اعتنقته من أفكارٍ وقيم ومبادئ، روحيّة وإنسانيّة، فتبدأ باتخاذ التبرير ملاذاً آمناً من غضب الأقوى والأقدر على البطش بها.

ما الذي يجعل الناس يسلكون عكس ما يؤمنون به من معتقداتٍ دينيةٍ وأخلاقيّة في لحظةٍ ما؟ هل هو الخوف وحده، أم أنّ ثمّة انحطاطًا قيميّاً، نجحت قوى البطش والطغيان في غرسه في الضمير الإنساني؟ ما الذي يجعل رئيس دولة، أو مسؤولاً في مؤسّسة يقرّر فجأة أن يلعق كلّ محدّداته القيمية والأخلاقية، ويبول على مبادئه ولاءاته التاريخيّة المعلنة، والمؤكّدة بوعود وأيمان مغلظة، ويجثو أمام المنفعة الماديّة، بل ويحاول أن يقنع الناس بأنّ ذلك هو منتهى الحكمة وخلاصة جوهر الأخلاق؟

لو فكّرت في المسألة من الزاوية الدينية، فقد كان النبي محمّد عليه الصلاة والسلام، يقول، وهو الرئيس المؤسّس للدولة الإسلامية والقائد الأوّل لها: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، ولم يقل إنّه جاء لتحقيق المصالح الماديّة للأفراد والمجتمعات، بل إنّه لم ينجح في التأسيس لدولةٍ امتدّت من شرق العالم إلى غربه إلّا انطلاقًا من قيمٍ أخلاقية ناصعة.

ولو نظرت فلسفيًا، ستجد المفكر والفيلسوف الجزائري، مالك بن نبي، يقول: "إذا كان العلم بلا ضمير فهو خراب الروح، وإذا كانت السياسة بلا أخلاق فثمة خراب الأمة". كما كان الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط، يقول إنّ "قيمة الفضيلة إنما تزيد كلما كلفتنا الكثير، من دون أن تعود علينا بأي مكاسب، منطلقاً من القاعدة الذهبيّة للفعل الأخلاقي التي تقول: "افعل بحيث يمكن لقاعدة فعلك أن تكون قانوناً عاماً"، وهي القاعدة التي يتحدّد في ضوئها الواجب الأخلاقي الذي يعرّفه هكذا "الواجب منزّه عن كلِّ غرضٍ، فلا يُطلب لتحقيق المنفعة أو بلوغ السعادة وإنّما ينبغي أن يُطلب لذاته، أي ينبغي أن نؤدّي واجبنا، فليست الأخلاق هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون سعداء، بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين بالسعادة"، فيما كان فيلسوف ألمانيا فريدرك هيجل يرى أنّ "تاريخ العالم ليس إلا تقدّم الوعي بالحرية والتعليم هو فن جعل البشر أخلاقيين".

مرّة أخرى، ما الذي يًجبر الشخص على أن يتحوّل فجأة إلى بقايا رماد متساقط من نعل مكيافيللي، مردّدًا مقولته المنحطّة: "أعتقد أن كل إنسان سوف يوافقني أن يستغل من الصفات ما يشاء في سبيل رفعته غير ناظر إلى أيّ قيمة أخلاقية أو دينية"؟

المصدر: العربي الجديد