{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}(سورة الفتح: 29)

        أيام قلائل وتطل علينا ذكرى مولد البشير النذير ﷺ الذي كان مجيئه إيذاناً ببداية عهد جديد سرى فيه نور الحق وانكشف فيه الباطل وتأسست للحق دولة تحميه  ونشأت أمة توحدت خلف المصطفى- صلى الله عليه وسلم- تنشر الحق والخير والعدل بين الناس، وترفع الظلم والبغي والعدوان عن العالمين.

        وقد قادت هذه الأمةُ الواحدةُ قاطرةَ الحضارة الإنسانية على مدار  أكثر من ألف عام، فكانت بمثابة الأستاذ الذي علم البشرية، والمرشد الذي دل على الطريق القويم، وحملت الخير للناس جميعاً ورفعت راية العدل والتوحيد الخالص بين العالمين؛ فأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، مصداقاً لقول الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).

        لقد مرت الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل بمحن كثيرة تربص فيها الأعداء بوحدتها وحاولوا مراراً تفكيكيها وتفتيتها وإضعافها، بالغزو الصليبي تارة والمغولي تارة، وبالموجة الاستعمارية الحديثة تارة أخرى، وهي في كل مرةٍ تمرض لكنها لا تموت، تضعف ولكنها ما تلبث أن تعود إلى وحدتها التي هي سر قوتها ومكمن عزتها.

        واليوم وقد اشتدت التحديات تجاه الأمة الإسلامية وتزايدت الضغوط التي تستهدف وحدتها وتسعى بكل قوة لإنهاكها بالاحتلال مرة وبالغزو الثقافي مرة أخرى، بعد أن تركت مقاومة عدوها والذود عن أرضها والدفاع عن مقدساتها، مصداقاً لقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو داود في صحيحه: (يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال: لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ).

        إلا أنه وفي وسط هذا الواقع الأليم وتلك المرحلة الفاصلة التي تمر بها أمة الحبيب- صلى الله عليه وسلم- خرجت طائفة من المؤمنين الصادقين في أكناف بيت المقدس يواجهون الاحتلال الغاشم ويرهبون عدو الله وعدوهم ويثخنون فيه ويسقطون هيبته ويضعفون شوكته رغم قلة إمكاناتهم وحصارهم من عدوهم وممن ظنوا أنه صديقهم.

        إنها رسالة صادقة من الأحرار على أرض الرباط تؤكد أن وحدة الأمة تبدأ من دفع العدوان وصد الطغيان، فوجدنا رجالا ونساء وأطفالا يحبون الموت كما يحب عدوهم الحياة فأذاقوهم الويلات ونطق حالهم بأبلغ رسالة إلى أمتهم بأن التخلص من حب الدنيا هو بداية الطريق وأن الموت في سبيل الله إنما هو أمنية عزيزة لكل مؤمن صادق الإيمان.

        هذا هو نهج النبي الهادي- صلى الله عليه وسلم- الذي يتوجب على الأمة أن تهتدي وتتمسك به في ذكرى مولده، لتحافظ على وحدتها وتستدعي مكامن قوتها حتى تعود من جديد هادية للعالمين ورافعة لراية العدل والإحسان ومبشرة بمنهج الإسلام الشامل ليعيش الناس حياتهم على منهاج الله وتحت راية عدالته ورحمته سبحانه.

 

مقاومة على منهاج النبوة

        إن دروس الثبات والعزة التي تتلقاها الأمة من غزة العزة في انتزاع الحقوق رغم التضحيات والمعاناة والألم ورائحة الموت التي تملأ القطاع، إنما هي الدرس البليغ الذي يتسق مع منهاج النبوة، بل هو الدرس البليغ لكل أحرار العالم الذي يؤكد أنه ما ضاع حق وراءه مُطالب.

        إن أصحاب القضية يعرفون هدفهم ويبصرونه بكل وضوح سواء على مستوى المقاومة أو على مستوى الحاضنة الشعبية، فبينما يحمل الأبطال السلاح ليذيقوا الصهاينة ألواناً من العذاب بعد أن ظنوا أنهم أبعد ما يكونون عنها، نجد الأطفال والنساء والكهول في شوارع وطرقات غزة تمتلئ عيونهم بالتحدي يرفعون رايات المثابرة والعزيمة في سبيل انتزاع حقوقهم المغتصبة واستعادة أراضيهم المحتلة ويكفيك أن تسمع كلمات الأطفال في الشوارع وهم يهمسون بكل فخر حينما يسألهم أحد الصحفيين عن شعورهم فيقول له أحدهم "كله يهون فدا المقاومة".

        والثبات والقوة والتمسك بالحق كما هو في ميدان الجهاد ومغالبة الأعداء هو نفسه في ميدان المفاوضات التي  لا تقل ضراوة عن ميدان المعركة، فنجد المفاوضين عن المقاومة يتصدون بكل ما أوتوا من قوة وذكاء وحنكة لألاعيب الصهاينة والأمريكان وأذنابهم من المتصهينين العرب ولا يقبلون تحت كل الضغوط أن يتنازلوا عن حقوق شعبهم الأبي ويسيرون في إصرار عجيب نحو هدفهم لا يحيدون عنه متأسين ومقتدين بصاحب المنهج والقدوة العظيمة رسول الله ﷺ حين أرسلت قريش إليه من خلال عمه أبو طالب وعرضوا عليه المال والجاه والملك والمنصب فأعلنها صريحة مدوية إلى يوم الدين "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أبداً حتى يظهره الله أو أهلك دونه“، هكذا هم أصحاب الحقوق لا يتنازلون عن حقوقهم ولا يخذلون من خلفهم، وإن كانوا لا يسعون إلى الحرب ولكنهم يحرصون على انتزاع حقهم بكرامة وإباء.

        إننا ونحن نتابع ما يفعله العدو الغاصب من تدمير وتنكيل بالشعب الفلسطيني بكل شرائحه لزيادة الضغوط على المقاومة أملًا منه أن ينال في غرف التفاوض المغلقة ما لم يستطع تحقيقه في أرض القتال، نقف تحية إكبار وإعزاز لصمود إخواننا أمام هذه الضغوط المكشوفة كما نقف إعزازاً وإكباراً لأبطالنا البواسل في ميادين القتال سواء بسواء.

        إن صمود الأبطال على أرض الرباط أمام هذه الآلة الإجرامية يحمّل الأمة الإسلامية تبعات جسام لبذل الجهد والطاقة في نصرة المقاومة وأصحاب الحق بكل غال ونفيس، وبكل ممكن ومستطاع بلا بخل أو تردد، لتكون هذه المؤازرة الناجزة خطوة على طريق الوحدة على منهاج النبوة ولبنة في إعادة بناء الأمة الراشدة.

 
وحدة مرتقبة وبشارة بالقادم

        وإذا كنا نطالع الواقع الذي يعيشه إخواننا في فلسطين وندرك خطورة التحديات التي يتعرضون لها والدور الذي يسعى له الاحتلال الغاشم المدعوم من كل قوى الاستكبار العالمي، فلنا أن ندرك أن هذه المحاولات الإجرامية تمتد- في الحقيقة- إلى نطاق أوسع مجالاً وأكثر اتساعاً لتفتح الصراعات داخل مكونات الأمة وأقطارها وبلدانها المختلفة، فكانت سايكس بيكو حيث تم تقسيم الأمة إلى أوطان معزولة وحبسها في حدود مفتعلة وحواجز مصطنعة وزرع نقاط ساخنة بين مكوناتها لتكون بذرة للصراع بين أبناء الأمة الواحدة. وهندسة الحروب الداخلية وتوجيه العداء إلى داخل الأمة بدلاً من مواجهة أعدائها والتصدي لجرائمهم ومخططاتهم. واليوم تستمر قوى الاستكبار العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الاحتلال الصهيوني في ذات الطريق والنهج يدعمهم نفر من أبناء جلدتنا ممن يتسمون بأسمائنا ويتكلمون بألسنتنا؛ ليشاركوا بنصيب وافر في الإمعان في تنفيذ خطط التقسيم والتفتيت وتمويله بأموال المسلمين.

        ففي السودان يسير العمل على قدم وساق لتفتيته وإمداد الصراع الدائر بكل الأدوات الممكنة والأسلحة المتاحة لاستمرار الصراع فيه، وصولاً إلى مزيد من  التقسيم وتبديد وحدة السودان ودعم مجموعات المرتزقة لإرهاب الشعب السوداني والتنكيل به وتشريده عن وطنه.

         وهاهم يفعلون الشيء نفسه في ليبيا حيث يقومون بدعم بقايا النظم المستبدة والعسكرية في الشرق لتثير من جديد النزاعات وتهدد محاولات الاستقرار ورأب الصدع، ولتقف عقبة أمام أي جهود لتوحيد ليبيا وإجراء انتخابات حقيقية تعبر عن تطلعات الشعب الليبي.

        ومن قبل فعلوا الأمر نفسه- وما زالوا يفعلون- في سوريا حيث المراهنة على استمرار الأوضاع وبقاء الحكم المستبد لتظل البلاد مستباحة للقوى الخارجية تعبث فيها كما تريد وتتحكم في مصيرها كما تشاء وليظل شبح التقسيم ماثلاً للعيان بلا أفق للوحدة والخلاص من الحكم المستبد وامتلاك الشعب لإرادة التغيير واختيار من يحكمه.

        وفي تونس ما زال الدعم الأمريكي والغربي مستمراً للحكم المستبد الذي فرق بين أبناء الوطن الواحد فسجن وصادر الحريات وانقلب على كافة المؤسسات المنتخبة وأعاد البلاد إلى مرحلة ما قبل الثورة بعد أن أهدر مكتسباتها وأطاح بكل منجزاتها تمهيداً لولاية استبدادية جديدة يسعى لها المستبد في أكتوبر القادم ليستمر في إحكام القبضة على الشعب التونسي ومنعه من النهضة ومن استرداد حريته.

        وفي مصر حيث الدعم الكامل والأموال السخية تتدفق من كل حدب وصوب بتوجيه أمريكي ودعم صهيوني لإنقاذ مصير حكم فاشل وحمايته من إرادة الشعب التي لم تعد تقبله ولا تتصور استمراره وفي ظل حالة من الانتكاس الكامل لكل مقومات الحياة وسعي دؤوب لبيع مقدرات الوطن ورهنها للأعداء من خلال حفنة من الوسطاء.

        إن كل هذه المحاولات وتلك الصورة التي قد يراها البعض سوداوية وقد أطبقت فيها قوى الاستكبار العالمي على مفاصل أوطاننا، هي في الحقيقة البداية المبشرة لمرحلة جديدة يتعاظم فيها دور الشعوب لتغلب إرادتهم إرادة من أراد تقزيمهم وسعى لتفريقهم، ففي الأفق تبدو تضحيات أهل فلسطين ماثلة ووعي الشعوب متقداً يبشر بوحدة الإرادة واستجماع العزم لساعة الخلاص حيث باتت ملامح صحوة الأمة الإسلامية بادية، ومؤشرات الوعي فيها ظاهرة تكاد تنطق بالحقيقة وتبشر بالأمل القادم وتؤكد أننا على مقربة من فجر جديد ووحدة مرتقبة ونور يبدد ظلمات الفرقة ويتصدى لكل محاولات الاستعمار وأذنابه، لتعود من جديد للأمة شوكتها وريادتها ولتكون أمة واحدة تقف أمام الرياح العاتية وتتصدى للتحديات وتعبد الله على بصيرة، مصداقا لقوله تعالى: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)  (اﻷنبياء: 92).

 
من أخبار الجماعة

        شاركت جماعة الإخوان المسلمون بتقديم واجب العزاء في وفاة العالم والداعية الكبير الأستاذ عبد المنعم العلي "محمد أحمد الراشد" في العزاء الذي أقامه الإخوان المسلمون بالعراق بوفد من قيادات الجماعة وأكدت الجماعة في كلمتها على حجم الخسارة التي تتعرض لها الأمة بفقد مثل هؤلاء الدعاة والمفكرين والتأكيد على حرص الفقيد الدائم حتى في فترات مرضه الأخيرة على التواصل مع القيادة لتفقد أحوال " الإخوان المسلمون" في مصر وتقديم النصح لهم.

         كما عقد تليفزيون "وطن" بالتعاون مع عدد من القنوات الفضائية مؤتمراً افتراضياً لتأبين الفقيد الراحل حضره العشرات من العلماء والمفكرين من مختلف بلدان العالم استعرضوا خلاله سيرة الراحل الكريم وبصماته على الفكر الإسلامي وإسهاماته في مجال الدعوة إلى الله.

    

واللهُ أكبرُ  وللهِ الحمد

أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "

اﻹثنين: 29 صفر 1446 هجرية - الموافق 02 سبتمبر 2024م


اضغط هنا لتحميل الرسالة PDF