وائل قنديل
أبشع ما في الاجتياح الإسرائيلي الدائر لمخيّمات الضفّة الغربيّة أنّ الشعب الفلسطيني يتلفّت حوله فلا يجد أثرًا لأكثر من 45 ألف شرطي فلسطيني، مرّت آليات قوات الاحتلال وجرّافاته من أمامهم من دون أن يطلقوا رصاصة، أو حتى صرخة تنبيه للمواطنين الفلسطينيين.
هنا يستفيق المواطن الفلسطيني على واقعٍ شديد القسوة، يقول إنّ هؤلاء الخمسة وأربعين ألفًا من الرجال المسلّحين يمثّلون قوّة إضافيّة للاحتلال، وهم أنفسهم الذين كانوا قبل أيّام يطاردون المُقاومين ويبلّغون عنهم ويقمعون المتعاطفين معهم، هذا الواقع الكريه هو حصاد 21 عاماً من "أوسلو" التي أخرجت السلطة الفلسطينيّة من حساباتِ القدرةِ النضاليّةِ ضدّ الاحتلال، و46 من "كامب ديفيد" التي أطاحت مصر خارج المعادلة الإقليميّة، وجعلت السلطة فيها، مثلها مثل سلطة أوسلو الفلسطينيّة، تعتمد في بقائها على التنسيق مع الاحتلال.
على ضوء ذلك، تبدو باعثة على السخرية أخبار مثل "محمود عبّاس يقرر قطع زيارته السعودية والأردن والعودة إلى رام الله"، كما هي غريبة وعبثيّة أسئلة من نوعية: أين محمود عباس ممّا يجري في الضفة، وأين مصر من الغطرسة الصهيونيّة التي تمدّدت حتى طاولت الحدود المصريّة، فالشاهد أنّه لولا وجود عبّاس لما كانت إبادة غزّة، ثم التحوّل إلى ممارسةِ شيءٍ ممّا فعله الاحتلال بغزّة في مدن الضفة ومخيماتها، كما أنّه لولا أنّ مصر انحبست في وظيفة الوسيط لما تحرّكت إسرائيل بكلِّ هذه الحريّة والسهولة.
تقول لنا ذاكرة الأيام إنّه في البدء كانت الضفّة، وفي القلب منها جنين، مجمرة الكفاح الفلسطيني ضدّ الاحتلال الصهيوني، حتى انتهت حقبة ياسر عرفات، ثم جاء محمود عبّاس إلى السلطة، راكباً موج أوسلو في حماية الكيان الصهيوني، فأعلن الحرب على المقاومة في مدنِ الضفّة ومخيّماتها، مقدّمًا كلّ يوم خدماته الأمنيّة للاحتلال.
هنا انتقل مركز ثقل الكفاح الفلسطيني المسلّح من الضفّة الغربية إلى قطاع غزّة، بعد أن نجحت سلطة عبّاس في تجريد مخيّمات الضفة الغربية وبلداتها من سلاحها، ثم استدارت تُلاحق المقاومين بالاعتقال والقتل والوشاية لسلطاتِ الاحتلال عنهم، بعد أن تحوّل عبّاس وأتباعه إلى نسّاكٍ في محرابِ التنسيق الأمني، يعبدون عجل أوسلو وما تلاها من اتفاقاتٍ وتفاهماتٍ جعلت من السلطة الفلسطينيّة الجديدة العدو الأوّل للمقاومة الفلسطينيّة.
قبل ذلك، كانت الضفّة، ومدينة جنين في المقدّمة، عنوان الانتفاضة الفلسطينية الشاملة بمواجهة العدو، ثمّ صاحبة المعركة الأعنف ضدّ الاحتلال في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حين قرّر الاحتلال اجتياح مخيّم جنين ومدن الضفة الغربية (إبريل/ نيسان 2002) في أعقاب عمليّة تفجير فندق في مدينة نتانيا داخل إسرائيل، وأسفرت المعركة عن استشهاد 60 فلسطينيّاً وجرح أكثر من 243، واعتراف إسرائيل بمقتل 24 جنديًا.
أجمعت كلُّ الروايات الفلسطينيّة على أنّ الاحتلال استهدف جنين بالتحديد، مدفوعاً بالرغبةِ في القضاء على المقاومة من جذورها، كون مخيّم جنين معروفًا منذ 1969 باحتضانه المقاومة بكلِّ أطيافها وفصائلها. ومن أجل ذلك، جاء آرئيل شارون إلى تخوم جنين وأشرف على المعركة التي استُخدِمت فيها كلّ أنواع الأسلحة، حتى طائرات إف-16 وطائرات الكوبرا والأباتشي وناقلات الجند والقنّاصة، ووحدات خاصة، مثل جولاني واليمام وجفعات.
بعد الاجتياح وتدمير المخيّم، كان الذهاب إلى توقيع اتفاقيّة أوسلو التي منحت الاحتلال كلّ شيءٍ وجرّدت الفلسطينيين من كلِّ شيءٍ إلّا سلطة شكليّة حبيسة المقاطعة، ممثلةً في ياسر عرفات الذي كان لا يزال يعتزّ بالمقاومة ولا يُعاديها، الأمر الذي عجّل بالتخلّص منه، وترسيم محمود عبّاس والياً على رام الله تحت مسمّى "رئيس السلطة الفلسطينية"، وظيفته الأساسيّة ومصدر عيشه التنسيق الأمني مع قوّات الاحتلال لضمان خلوّ الضفّة من كلِّ ما يزعج العدو.
لم يكتف عباس بنزعِ سلاح المقاومة في الضفّة، فاستدار يتعقّبها بعد انتقالها إلى غزّة، ليصل به الأمر إلى السخرية من كفاحها المسلّح الذي اعتبره "حكي فاضي"، ثمّ مع كلِّ استفاقةٍ للمقاومين بالضفّة، يطلق رجاله عليهم، سجناً وتشهيراً ووشايةً، ليأتي وقتٌ يقول فيه محافظ نابلس عن أمّهات المقاومين الشهداء إنّهن أمّهات شاذات، يرسلن أبناءهن إلى الانتحار، ثم يظهرن للآخرين أنّهن المناضلات.
في يوم 28 ديسمبر 2021، كانت ذروة انسلاخ محمود عبّاس عن كلّ شيءٍ، حين التقى في مساء ذلك اليوم وزير الدفاع الإسرائيلي، بني غانتس، في منزل الأخير، حيث قال بيان صادر عن وزير دفاع الاحتلال إنّ عباس أكّد استمرار التنسيق الأمني وملاحقة المقاومة في الضفّة الغربية. كما قالت هيئة البثِّ الإسرائيلي الرسمية إنّ عبّاس أكّد لغانتس استمرار أجهزة الأمن الفلسطينيّة في ملاحقة المقاومة في جنين والضفة، وأكّد علمه بمخطّطات حركتي حماس والجهاد الإسلامي لإشعال الضفّة، بحسب قولها. وأضافت هيئة البثّ الإسرائيلي أنّ عبّاس أكّد لغانتس أنّه لا يمكن التنازل عن التنسيق الأمني تحت أيّ ظرفٍ، وأنّ سلطته تسيطر على الوضع.
مرّة أخرى، نموذج محمود عبّاس تجده في أطياف من الحكام، ومن السياسيين، والمثقفين، لا يطيقون الحياة من دون وجود الاحتلال الصهيوني، الذي قد يعادونه في الظاهر، لكنّهم يلاطفونه ويخطبون ودّه في الباطن، هؤلاء صارت كراهيتهم فكرة المقاومة أكبر من كراهيتهم الاحتلال.
المصدر: العربي الجديد