وائل قنديل

استمرّت الجولة الأولى من مفاوضات اتّفاق بايدن في الدوحة، يومي الخميس والجمعة الماضيين، وبدأت بكلام أمريكي عن التفاؤل، وانتهت بالكلام نفسه، من دون أن تُؤدّي إلى خطوة واحدة أبعد ممّا كان. وفي هذه الأجواء من التفاؤل الأميركي، الإجباري، كانت الحصيلة خلال 48 ساعة فقط، منذ يومي السبت والأحد، نحو 60 شهيداً فلسطينياً جديداً، إذ كانت آلة القتل تعمل بسرعة أكبر من آلة التفاؤل.
مساء السبت كذلك، كان مكتب رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، يعلن جرعةً إضافيةً من التفاؤل نقلاً عن فريق التفاوض الصهيوني، بشأن وقف إطلاق النار في غزّة، والإفراج عن الرهائن، فأعرب عن "تفاؤل حذر بشأن إمكانية المضي في صفقة التبادل على أساس المقترح الأميركي الراهن... الذي يشمل البنود المقبولة لإسرائيل".
من أين يأتي التفاؤل؟... يجيب البيان الصادر عن مكتب نتنياهو "من الأمل في أن يُؤدّي الضغط الشديد على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من الولايات المتحدة، والوسيطَين المصري والقطري، إلى التراجع عن رفضها المقترح الأميركي، وحدوث انفراجة في المحادثات". ثم تكمل صحيفة معاريف الصهيونية بأنّ هناك "تفاهماً على أنّ ضغوطاً كبيرة سيمارسها الوسطاء على (حماس)، بما في ذلك أدوات ضغط فعّالة، مثل ضخّ الأموال، ومسألة المعابر في قطاع غزّة".
إذن، ينحصر مفهوم التفاؤل عند واشنطن وتلّ أبيب في الضغط على المقاومة الفلسطينية حتّى ترضخ وتركع وتسلّم بما يمليه بايدن، والذي هو في الأصل، وكما عبّر عنه الرئيس الأميركي في طرحه أوّل مرّة، مقترح إسرائيلي، وهو ما ردّت عليه المقاومة سريعاً وبحسم، أنّ المعروض ليس اتفاق سلام وإنّما أمر بالاستسلام، وبالتالي هو مرفوض رفضاً واضحاً، لأنّ رئيس حكومة الاحتلال، فعلياً، لا يريد اتّفاقاً يوقف العدوان على غزّة.
 يلفت النظرَ أنّ دخول تلّ أبيب على خطّ التفاؤل الخادع، النابع من توقّع ضغط الوسطاء الشديد على المقاومة، يأتي مع انتقال مائدة التفاوض من الدوحة إلى القاهرة، في تزامن مدهش مع ذكرى يوم  18 أغسطس/ آب 2011، الذي اجتاحت فيه وحدة عسكرية إسرائيلية الحدود المصرية، وقتلت خمسة جنودٍ مصريين، وكما جاء  في تقرير قوات المراقبة الدولية بسيناء، فإنّ إسرائيل ارتكبت مخالفتَين لاتّفاقية السلام مع مصر؛ اجتازت الحدود المصرية، وأطلقت النار من الجانب المصري.
كانت مصر تغلي بالثورة في تلك الأيام، فكان الشعب حاضراً وفاعلاً، إذ حاصرت ثورة مصر سفارة العدو الصهيوني عند النيل، وأنزلت يدُ أحدِ أبنائها، الشابّ أحمد الشحّات، علم العدوّ وأحرقته، واستمرّت التظاهرات في حصارها السفارة حتّى طردت سفير الصهاينة، وأجبرت النظام العسكري المصري على إصدار بيانٍ بسحب السفير من تلّ أبيب، ثم كان تكريم محافظ الشرقية في ذلك الوقت، عزازي علي عزازي، للشابّ بطل موقعة إنزال العلم بمنحه شقّةً سكنيةً، قائلًا: "تمنيّت لو كنت مكانه لنيل هذا الشرف، الذى سيظلّ وساماً على صدر كلّ مصرى".
تلك هي مصر التي استعادت هُويَّتها وشخصيتها الحقيقية قبل 13 عاماً، ثم اجتمع أوغادُ الداخل والخارج عليها لإعادتها إلى حالة الكنز الاستراتيجي للعدو الصهيوني، ومصدر الشعور بالراحة والطمأنينة والتفاؤل لبنيامين نتنياهو، والذي كان رئيساً لحكومة الاحتلال وقت محاصرة سفارته في القاهرة، واستبدّ به الفزع حتّى هدَّد بإرسال قواته إلى القاهرة لفكّ حصار السفارة، وإخراج موظّفيها المُحتجزين، بحسب ما أعلن في حفلٍ لموظَّفي الخارجية الإسرائيلية "في تلك الليلة، عملنا بكلّ الأدوات المتاحة، بما فيها التهديد بإرسال قوات الدفاع الإسرائيلية لإخراجهم، الأمر الذي جعل الكفَّة تميل لصالحنا". وأضاف أنّه بفضل التنسيق مع القوات المصرية "كانت النتيجةُ ناجحةً".
لم يتغيّر نتنياهو في مدار هذه السنوات كلّها، لكنّ مصر تغيّرت جذرياً بعد أقلّ من عامَين على طرد السفير، فعادت إسرائيل تمارس سطوتها ونفوذها، حتّى صار رفع علم فلسطين في القاهرة جريمةً تضع مرتكبها في السجن. تناولت مصر جرعاتٍ مكثفةً من الغاز الذي يصدّره لها الاحتلال حتّى اختنق صوتها، ولم تعد تقدر أن تفتح عينَيها لترى أبعد من صفقة، أو ترى الصهيوني يحتلّ معابرها فتطلق أبواقًاً تسبُّ المقاوم الفلسطيني المُحاصَر وتحمّله المسؤولية، فلماذا لا يتفاءل القاتل الصهيوني إذاً؟

المصدر: العربي الجديد