ليست رابعة الكرامة مجرد ذكرى يتم استعراض أحداثها كل حين، ولن تكون! ولكنها كانت وستظلُّ وسام شرف على صدور من شارك فيها وضحَّى بروحه وأغلى ما يملك فيها؛ ابتغاء وجه الله لتحرير إرادة الأمة المصرية من ربقة الاستبداد وقيد القهر والطغيان.

كانت رابعة وستظل علامة فارقة في تاريخ مصر؛ برهنت على قدرة هذا الشعب الأبي على التصدي للباطل، والوقوف أمام الظلم وأمام كل من يريد تغييب وحجب حقه في الحرية واستقلال الإرادة.

لقد كان اعتصام رابعة السلمي أيقونة لأحرار العالم ومعلماً بارزاً لوضوح الفكرة وبيان الحقيقة وإعلان المواقف والتحذير من مغبة ما يمكن أن تؤول له الأمور؛ في ظل حكم استبدادي اغتصب السلطة عنوةً، وسَطاً على إرادة الجماهير التي أودعتها صناديق انتخابات حرة شهد العالم بنزاهتها، بل ولم تشهد مصر عبر تاريخها مثيلاً لها في التعبير الصادق عن إرادة الشعب المصري.

إن المستبد الذي صدع أهل رابعة بكلمة الحق في وجهه، مضحِّين بأرواحهم ودمائهم، وحاولوا أن يحموا مصر من طغيانه؛ هو نفسه المستبد الذي يرضخ اليوم للاحتلال الصهيوني، يترقب أوامره ويرتهن بإرادته ويسير خلفه شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

لقد كانت البوصلة منضبطةً نحو فلسطين لدى معتصمي رابعة، فهم يعلمون أن من يسعى لاغتصاب السلطة بالقهر سيسعى حتماً للحصول على شرعية مكذوبة من خلال الارتماء في أحضان العدو والانحياز إلى أجندة الاحتلال الصهيوني الغاشم؛ فكانت الرؤية واضحة لدى معتصمي رابعة عندما أدركوا أن أعداء الأمة (وفي مقدمتهم الاحتلال الصهيوني) هم أول الرابحين من كبت صوت الحرية في مصر وتقييد إرادة الشعب المصري؛ الذي يؤمن بأن فلسطين هي قضية الأمة المركزية، وتتوق نفوس أبنائه لتحرير المسجد الأقصى من دنس اليهود.

إن من يتصور أن رابعة واقعة قد انتهت وحدثاً قد طواه النسيان واهمٌ لا يدرك حقائق الأمور ولا يعرف عزائم الشعوب؛ لقد كانت رابعة البداية وستظل باقية في قلوب الملايين تلهم الأحرار بيوم الخلاص من الاستبداد، وترسم الطريق أمام المخلصين لمواجهة الطغيان، والتحرك لوقف الانهيار الذي أصاب مصر الكبيرة وأضعف شوكتها، ولتسترد قريباً بإذن الله عافيتها، وتستعيد بحول الله ثورتها، وتستأنف مسيرة الحرية والكرامة.
  
ستظل رابعة فرقاناً بين الحق والباطل، فرقاناً بين من يعرف معنى الإنسانية ومن فقد معالمها، وفرقاناً بين الوطنية الحقة وبين المتاجرة بآلام الوطن.

وستظل رابعة الأمل الذي يتبدّى في الأفق ويضيء الطريق لكل محبٍّ لوطنه، كما ستظل رابعة عاراً على من قتل أهلها وحرق جثامين أبطالها.. ﴿وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:٢١).

أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون"
الثلاثاء 9 صفر 1446 هـ - 13 أغسطس 2024 م