حين بنى بدر الجمالي أسوار القاهرة الفاطمية، التي نشأت بداخلها منطقة الجمالية لم يتخيّل طبعاً ما سيلحق بالمنطقة الشهيرة بعد عقود من دمار، وآخرها قرار هدم الجبانة التاريخية مقابل باب النصر، أحد أبواب القاهرة التاريخية، التي تضم السور الكبير، وتسمى جبانة باب النصر التي تعد أقدم المدافن التاريخية في القاهرة.
يزيد عمر جبانة باب النصر عن ألف عام، وتضمّ نموذجاً فريداً للمدافن، إذ تُحيط مقصورات خشبية بالأضرحة، وقد اشتهرت بتنوع القبور فيها، وبتصاميمها المعمارية الفريدة التي تعكس التطور الحضاري للمدينة. ويأتي قرار هدم الجبانة وسط جدل واعتراضات سبق أن أحاطت بقرار هدم جبانتي الإمام الشافعي والسيّدة نفيسة، غير أن حملات المعارضين على مواقع التواصل، وزيارات ميدانية جماعية لها، لم تفلح إلا في إنقاذ أضرحة عدد من المشاهير، ومنهم ضريح الأدب الراحل طه حسين، وهو ما يتوقع أن يكون مصير الحملات الراهنة لمحاولة وقف هدم الجبانة، بعد تصريحات رسمية تؤكد المضي قدماً في مخطط الهدم الدائر على قدم وساق في المحافظة.
وتضم جبانة باب النصر رفات علماء وأدباء وأمراء، كما تتّفق معظم المراجع على أنّ ابن خلدون دُفن فيها، وهناك شكوك حول احتمال وجود قبره حتى اليوم، كما تضم رفات تقي الدين المقريزي. ويرجع بناء الجبانة إلى قُرابة عام 1300 ميلادي، كما كانت، في الوقت نفسه، أوّل مقبرة أهلية لفقراء القاهرة. ورغم حملات قام بها ناشطون ضد هدم الجبانة، تواصل جرافات محافظة القاهرة خلال هذه الأيام عمليات الهدم، بهدف إنشاء موقف للسيارات متعدّد الطوابق لخدمة زوّار المنطقة.
وسبق للباحث في الآثار الإسلامية ثروت فتحي الأزهري أن حصل على شهادة الدكتوراه من كلية السياحة والفنادق في جامعة المنيا، بعدما قدّم أطروحته حول جبانة باب النصر. وتضمنّت رؤية شاملة لوضع المنطقة على خريطة السياحة الدينية والإرشاد السياحي، لكن مصيرها كان مصير خطط كثيرة: الاختفاء داخل الأدراج الرسمية.
من جهته، يشير الباحث في مجال الآثار جلال عبادة في منشور في "فيسبوك"، إلى أن بعض المقابر هدمت في بداية الألفية، ومنذ عامين هدم عدد آخر، "إلى أن وصلنا لهذه الهجمة الحالية الشرسة المتمثلة في التدمير التدريجي واسع النطاق لمقابر باب النصر لإقامة موقف سيارات متعدد الطوابق ليخدم فندقاً أو اثنين داخل السور - وفقاً لما نشر بوسائل الإعلام". وأفاد بأنه كان من الممكن إيجاد عشرات الحلول التخطيطية والعمرانية لهذا "الجراج متعدد الطوابق" التي تتناسب مع طبيعة المنطقة التاريخية وتتناغم مع نسيجها العمراني من دون الإضرار به، وتحافظ على هذه الموارد النادرة في الوقت نفسه.
الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثريين في وزارة السياحة والآثار، عبّر عن حزنه لعمليات الهدم، وقال لـ"العربي الجديد": "هناك أبحاث عدة لتطوير المنطقة، إذا استعان بها صاحب القرار لدرت على الدولة عائدا ينافس الأهرامات بدلا من هدمها، خاصة أنها تضم أضرحة عدد ضخم من مشاهير المؤرخين والعلماء وعلى رأسهم ابن خلدون والمقريزي".
وأبدى شاكر دهشته من صمت منظمة يونسكو قائلا: "يبدو أن القرار اتخذ من سلطة أكبر من الوزارة، وأن تلك السلطة ليس لها علاقة بالتراث أو الآثار ولا تستعين بالخبراء، وإنما همها الأول الاستثمار والعائد المادي السريع والسهل".
وأكدت المهندسة مروة عبد الجواد، المتخصصة في فلسفة التاريخ العمراني، أن عمليات هدم الجبانات بدأت قبل 52 عاماً عندما شق طريق صلاح سالم وتبعه الأوتوستراد في السبعينيات، "وقد حصل ذلك في فترة لم تكن المقابر فيها مدرجة على قائمة التراث العالمي ولم يتم توثيق الخسائر. بينما بدأت عمليات الهدم في باب النصر في أواخر التسعينيات، ورغم تميز مقابرها الخشبية التي لم تتكرر، لكن لم يشفع لها في عمليات الهدم وشق الطرق".