يجهل الكثيرون شكل المجتمع المسلم حين ينعم بحكم شريعة الإسلام ويتحلى بأخلاقه ويأتمر بأوامره، فيتخيل البعض أنه مجتمع متجهم الوجه حاد الفكر والطباع لا وقت فيه للرفاهية ولا مكان للراحة، يسير الجلاد بين الناس بالسوط يحض هذا على الصلاة وتلك على الحجاب وهؤلاء على غض البصر ومعاقبة من يخالف بالحدود الرادعة.

بينما الحقيقة أن المجتمع المسلم المتكامل في أبهى صوره وفي أعلى درجات تطبيق الشريعة وفهمها في فجر الرسالة في مجتمع المدينة المنورة كان مجتمعاً متحاباً، متآخياً، متعاوناً، متكاملاًز

أولاً: الحب والتآخي:

أقام النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المدينة على عدة قواعد؛ أولها المؤاخاة والحب في الله، ففي الحديث القدسي: قال الله تعالى: «وجبَتْ محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، وللمتجالسين فيَّ، وللمتزاورين فيَّ، وللمتباذلين فيَّ»(1)، والحب في الله لا يكون من صنيعة بشر ولا يحكمه قانون، بل هو هبة من الله تعالى لعباده المؤمنين، فيقول تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 63)، وقال: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران: 103).

والإيمان هو رابط القلوب بالمحبة، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71).

ولنا أن نقارن بين مجتمعين، أحدهما يسوده الحب والتآخي والتراحم والتواد، وآخر تسوده الانتهازية واقتناص الفرص والمصلحة الفردية دون العامة والتنافس غير المشروع، وهي صفات جاهلية حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: «دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسد، والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشَّعر، ولكن تحلق الدِّين، والذي نفسي بيده، لا تَدْخلوا الجَنَّة حتى تُؤْمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحَابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يُثبت ذلك لكم؟ أَفْشوا السَّلام بينكم» (الألباني في صحيح الترمذي).

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قيل: يا رسول الله، أيُّ الناس أفضل؟ قال: «كلُّ مخموم القلب، صَدوق اللِّسان»، قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التَّقيُّ النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد»(2).

ومن أنقى صور الحب في المجتمع المسلم قول النبي صلي الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحَدُكم حتى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه» (صحيح البخاري)، ويقول عليه الصلاة والسلام: «مَثَل المؤْمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفهم مَثَل الجسَد؛ إذا اشْتكى منْه شيءٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى»(3).

وما يساعد المسلم في الوصول لمكانة الحب في الله هو تدريب نفسه وحملها عليه، وذلك بإخبار المحبوب بحبه فيقول عليه الصلاة والسلام: «إذا أحبَّ أحدُكم صاحبه فلْيَأته في مَنْزِله، فليخبره أنه يحبُّه لله عزَّ وجلَّ»(4).

ثانياً: التكافل والتعاون:

حثت النصوص الإسلامية على قيمة التكافل والتعاون بين المجتمع الواحد، وصورته بأنه كالبنيان المرصوص، وبالجسد الواحد إذا تداعى له عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، فيقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَثَل المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمِهم، كمثلِ الجسَد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهر والحمَّى» (رواه البخاري، ومسلم)، ويقول عليه الصلاة والسلام: «المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيان، يَشُدُّ بعضُه بعضًا» (رواه البخاري، ومسلم)، ويقول: «لا يؤمِن أحدُكم؛ حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه» (رواه البخاري)، و«مَن كان معه فضْل زادٍ فَلْيَعُد به على مَن لا زاد معه، ومَن كان معه فضْل مركوبٍ فَلْيَعُد به على مَن لا مركوب له» (رواه مسلم).

ومبدأ التكافل في الإسلام ليس هبة من أحد، ولا من باب تفضل المسلم على أخيه المسلم، وإنما هو نابع من ولاية المسلمين بعضهم على بعض، فيقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

فالتكافل التزام أخلاقي بالمال من القادرين لغير القادرين، فيقول تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، ويقول عليه الصلاة والسلام: «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه» (رواه البخاري).

ومن صور التكافل في المجتمع الإسلامي الزكاة والصدقة والإنفاق على الأقارب المحتاجين.

ثالثاً: الصدق والمصارحة:

والمقصود بالصدق والمصارحة التناصح اللين الطيب مع حسن الخلق، وليس بما يحدث في المجتمع بسوء خلق تحت دعوى الصراحة والمباشرة والوضوح والشفافية، والإسلام لا يعرف الغلظة ولا الفحش في القول حتى ولو صدقاً.

وللصراحة صور مجتمعية، منها على سبيل المثال حين يستشهد أحد عن خُلُق أحدهم لغرض الزواج، أو لغرض المشاركة في التجارة، أو لغرض الجيرة، كلها أسباب تقتضي الصراحة الكاملة ليس بغرض الغيبة، وإنما بغرض التنبيه والنصح المخلص مع الحفاظ على السرية وعدم الفضح المرفوض شرعاً وبشروط مشددة، وفيه صدق الحال أن يكون مع الناس على طبيعته دون مداراة أو تجمل كاذب، وصدق القول فيتحرى الصدق في أخباره ولا ينقل كل ما يسمع، ومنه سلامة القلب بالحرص على مصالح الناس والتخلص من أمراض القلوب.

_____________________

(1) المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 328).

(2) المرجع السابق (4/ 33).

(3) مسند أحمد بن حنبل.

(4) الألباني في السلسلة الصحيحة.