البشر و المناهج
البشرية منذ نشأتها تقدمت أو تأخرت تتبع منهج أو قوانين أو نظم تُسيّر بها حياتها وتنقسم إلى مناهج بشرية ومنهج الله العزيز الكريم؛ فتعالوا نتعرف على أيهما أفضل للبشرية
- منذ القدم حاول البشر أن يكون لهم منهج يسيرون عليه في حياتهم؛ فشريعة حامورابى عند قدماء المصريين والقانون الروماني عند الرومان كل ذلك مما حمله التاريخ من شرائع البشر في القديم .
وفي الحديث أمامنا صور كثيرة نكتفي بإذن الله بصورة من القديم وصورة من الحديث لنعرف كيف يمكن أن تكون عليه مناهج الناس وشرائعهم ، إذا تُرِكت إليهم يصنعونها بأيديهم .
مثل من القديم :
- فيظل الديانة الهندية القديمة ... و التي ما زالت موضع احترام عند البعض ولا يزال للبقر قدسية تحول دون ذبحها ، وتقف من أجلها المواصلات إذا قطعت الطريق ، ويوضع روثها على الرءوس إذا تبرزت في الطريق، بل ويشرب ( رئيس وزراء الهند ) كل يوم كوباً من بولها لتحدث له ( البركة ) من الإله المزيف المزعوم !
ينص قانون الهند - وهو شرح لكتابهم المقدس ( الويدا ) : على طالب العلم أن يتجنب الحلوى و اللحوم و الروائح الطيبة و النساء ، وكذلك يجب عليه أن لا يدلك جسمه بما له رائحة طيبة ، ولا يكتحل ، ولا يلبس حذاء ، ولا يتظلل بالشمسية وعليه ألا يهتم برزقه بل يحصل على رزقه بالتسول .
ويقسم القانون طبقات المجتمع إلى أربعة :
أ- البراهمة ... وهم خلقوا في زعمهم من فم الإله ! وهم طبقة الحكام و العلماء و الكهنة .
ب- الكشتريا ... وهم خلقوا في زعمهم من ذراع الإله ! وهم طبقة المدافعين و المتعلمين .
حـ - الويشا ... وهم في زعمهم خلقوا من فخذ الإله ! وهم طبقة المزارعين و التجار .
د- الشودرا ... وهم خلقوا في زعمهم من رجل الإله ! وهم طبقة الخدم التي تخدم الطوائف .
ومثل من الحديث :
ما أقره البرلمان الإنجليزي في السبعينات من إقرار العلاقة غير المشروعة بين الرجال ، وما أقره البرلمان السوري في الثمانينات من إعدام كل من ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين !!
الناس وأرباب متفرقون :
- { ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } وتوزع الناس في حياتهم بين أرباب متفرقين ... ، رب يشرع لهم في حياتهم الاجتماعية ... تقليداً وأعرافاً وأنظمة يطيعونها ... ويتعبدون بالامتثال لها ، وهي رذيلة وانحطاط !
وقد أتيح لي أن أرى بعض التقاليد التي يتعبد لها الغرب مثل عيد ( الفاشينج ) حيث يشوه الجميع خلقتهم ويجعلون لها أشكالاً من طيور أو حيوانات أو غير ذلك ويفرحون بذلك ويطربون !
ورب آخر يشرع في حياتهم الاقتصادية ... رأسمالية ، اشتراكية ، شيوعية .... وفي كل نظام يتخبطون ، وكل حزب بما لديهم فرحون !
ورب آخر يشرع لهم في حياتهم السياسية ... قومية ... وطنية .... ديمقراطية ... ثيوقراطية ... الخ ، و الناس يتمزقون في حياتهم بين هذه الأرباب ... وقد يجمعون في وقت واحد بين نظام مستمد من شرق وآخر مستمد من غرب ، وثالث مرقع من هذا وذاك !!
وقد يستشعر الناس هذا التمزق، وقد يرون أثره ولا يشعرون، وقد يشعرون ولا يعرفون الأسباب ! .
الإسلام .... وهذه الجاهلية
- وواجه الإسلام هذا اللون من الجاهلية ... يعترفون بوجود الله ويشركون معه آلهة وأرباباً آخرين ... { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } ، { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } .
وواجه لوناً آخر من الجاهلية لم يتوافر من بعد ... حجارة تنحت ، ثم يسجد لها ... وآلهة من عجوة ... يسجدون لها ، ثم يأكلونها إذا جاعوا ، وكانت مأساة مضحكة مبكية ! وكانت قبل الإسلام هذه الجاهلية المركبة .
- ولم يقبل الإسلام مهادنة أي لون من ألوان هذه الجاهلية ! ولم يقبل فيها أنصاف الحلول بل أعلنها صريحة ... إما منهج الإسلام ... وإلا فمنهج الجاهلية ... { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } .
خصائص هذا المنهج
- وهذا المنهج مصطبغ بصبغة صاحبه ومنزله { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون } ... ومن ثم فأول خصائصه وأهمها ... أنه رباني .. ومن هذه الخصيصة كل الخصائص الأخرى ! .
أ- منهج رباني :
لأنه من عند الله ... فيما أنزل من وحي ... كتاباً وسنة .... وربانية المنهج تعطيه ... كل صفات صاحبه ...
ب- منهج رحيم :
لأنه تنزيل من رحمن رحيم { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ... { ورحمتي وسعت كل شيء }
جـ - وهو منهج عدل :
لأنه من عند الله العدل ... الذي يقول :
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل }
{ كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .
( يا عبادي أنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) .
و الذي يدعيه الناس من مناهج عدل ... مشكوك فيها لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، وتجرد الناس عن الهوى وتجردهم عن المصالح الشخصية ، وتجردهم عن تأثير البيئات و المجتمعات أمر بعيد ومستبعد ! .
وقد رأينا نموذجاً من عدل الهنود في تقسيم الطبقات ورأينا نماذج العدل الحديثة في الاشتراكية و الشيوعية وما شابهها ! .
د- وهو منهج فعال :
يجمع بين جزاء الدنيا .. الذي يغدو أعدل من أي جزاء دنيوي آخر ، وجزاء الآخرة الذي يفقده أي نظام دنيوي آخر ! ومن ثمَّ يغدو مؤثراً ، ويغدو حافظاً وحارساً ... لا يحتاج إلى حراسة أخرى إن وجدت ! .
هـ- وهو منهج يجمع بين الثبات و المرونة :
الثبات في مصادره وفي أصوله ، وفي قيمه، و المرونة في تفاصيله وقضاياه المتجددة حيث شرعه لها من المصادر ما يواجه بها حاجات الناس وقضاياهم المتجددة ! ولا يوجد على الأرض منهج يجمع بين الأمرين !
وكل الكتب السماوية التي بين أيدينا رانت عليها سحب التغيير والتبديل عدا دين محمد عليه الصلاة والسلام { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } .
و الذي يحاول من مناهج البشر الثبات فإنه يفتقد المرونة ويعجز عن مواجهة القضايا المتجددة ... أما منهج الله فقد شرع من المصادر ما يسمح بالمرونة ، وما يجعله قادراً على مواجهة القضايا المتجددة فالقياس والاستحسان ، والاستصلاح ، و العرف ، .... الخ كلها مصادر تثرى الفقه الإسلامي بالحلول المتجددة لكل قضايا العصر .
و- وهو منهج يتسم بالشمول :
الشمول المكاني ... لكل أرض الإسلام ... فهي محكومة بهذا المنهج ، و الشمول الشخصي لكل أبناء الإسلام ... فكلهم محكوم به ولو ترك أرض الإسلام ... و الشمول الزماني ... من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيام الساعة ، لأن هذا الدين هو آخر الأديان { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } .
و الشمول الموضوعي ... لكل أمور الدنيا والآخرة ، وفي أمور الدنيا لكل أمور السياسة و الدين بالتعبير الحديث ، وفي هذه لكل الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية و السياسية ! وداخل هذا لكل الأفراد ولكل الأسر ولكل الأمم ... ما دامت قد شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأعلنت بذلك التزامها المنهج الرباني وارتضاءها به ، ولا يوجد منهج آخر له كل أنواع الشمول التي أشرت إليها ! .
ماذا أعطت مناهج البشر ؟ وماذا أعطى منهج الله ؟
- أما عن مناهج البشر فقد أعطت تفرقة ظالمة بين الشريف و الضعيف ، وتفرقة ظالمة بين الطبقات ... الغنية و الفقيرة و الشريفة و الحقيرة ، وحروباً طاحنة بين القبائل ، ثم بين الأمم و الشعوب ... لا ناقة لها فيها ولا جمل .
وأعطت معها مصادرة للحريات ... مر باسم الثيوقراطية ، وأخرى باسم الاشتراكية وثالثة باسم الديمقراطية .... تعددت الأسماء و السوط واحد .
وأعطت معها نظماً اقتصادية ... فيها المظالم ، وفيها المشاكل ، وفيها البطالة وفيها الدورات الاقتصادية وفيها مصادرة الجهد البشرى و الحافز الفردي ... الخ .
وتاريخ البشرية شاهد وخير شاهد !
ونظرة إلى أرقى الأنظمة اليوم وإلى حال الإنسان فيها وإلى التعاسة التي يعيشها ، ويحاول تغطيتها بأغطية زائفة ... ابتداء من البسمة المصطنعة إلى القبلة التقليدية الباردة وانتهاء إلى الحفلات و المناسبات ... كل ذلك يكفي للحكم عل حال الفرد وحال الأسرة وحال المجتمع .
- أما عن منهج الله :
فقد أعطى ولا يزال يعطى للإنسانية الكثير ... وعطاء منهج الله فوق كل عطاء .... إنه عطاء كريم لا ينفد عطاؤه { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مدداً } ولا يزال الفقه الإسلامي يثرى كل يوم وكل حين بالجديد المستمد من عطاء رب العالمين ... وذلك في كل مجال ...
- وعطاء منهج الله ... شمل الفرد ... فأخرجه من الظلمات إلى النور ، ومن الضيق إلى السعة ، ومن الحيرة والاضطراب إلى الطمأنينة و الهدوء ... { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } .فعاش الفرد في ظلال منهج الله في سلام مع نفسه المطمئنة ، وفي سلام مع المجتمع الذي يعيش فيه ويحس فيه ما لا يحسه أي فرد في أي مجتمع آخر .
- وعطاء منهج الله ... شمل الأسرة ... رباطاً وثيقاً ينتظم علاقاتها ويؤسسها على المودة و الرحمة ، يرسم علاقة الزوجين { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة }
يهتم بالآباء والأمهات اهتماماً لا يعرفه اليوم نظام على وجه الأرض { وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } .
ويجعل هذه الأوامر عقب الأمر بعبادته { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً }
ويكررها في مواضع أخرى { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } ، ويجعل عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله ، قال صلى الله عليه وسلم :( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ( ثلاثاً ) قلنا بلى يا رسول الله قال :( الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور ) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) .
وانظر إلى حال العجائز في الغرب ... وكيف لا يعرف الأبناء آباءهم إذا كبروا ، وكيف يصير الصديق الوحيد للعجوز رجلاً أو امرأة - هو الكلب ، الذي صار تعلق الغربيين به أكبر وأعمق من تعلقهم بالإنسان لما يؤديه هذا الكلب من دور في حياتهم في الوقت الذي يتنكر فيه الأقربون ! .
إن العجوز - أما أو أباً - تمضى عليه الشهور بل السنون لا يرى أولاده ،ولا يجد من يوده من الجيران ، ومن ثمَّ فإذا مرض فلا أحد يعوده ، وإذا قعد فلا أحد يزوره أو يسأل عنه ، وإذا مات فقد تمر أيام قبل أن يعرف بوفاته ، وقد لا تعرف وفاته إلا من خلال ما ينبعث من المسكن من رائحة كريهة ! { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } ؟! .
وعطاء الله شمل المجتمع ...
فأقام علاقاته كذلك على التعاطف والتراحم ومثله بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى ) وقام المجتمع على تكافل اقتصادي ... لا يبيت المجتمع وفيه جائع أو محتاج ، وقام على تكافل سياسي يسوده الانتصار للمظلوم والانتصار من الظالم .
{ و الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ولقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وقال : لو عرض عليه في الإسلام لقبله ) .
37- وعطاء منهج الله أحيا شعباً وأقام أمة :
{ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } أمة استطاعت في نصف قرن أن تملك نصف الدنيا ، وأن تمتلك في ثمانين عاماً ما عجزت الإمبراطورية الرومانية خلال ثمانمائة عام .
وماذا كانت قبل ذلك ، كانت قبائل متنافرة يفخرون بقولهم :
ألا لا يجهل أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وبقولهم :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قد جاء برهاناً
بل يكون العدوان على أخيهم إذا لم يجدوا ما يعتدون عليه :
وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا
وكان حالهم :
أتيت و الناس فوضى لا تمر بهم إلا على صنم قد هام في صنم
وحسبنا حكم الله { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }
وفتحت مناطق وقارات بغير نقطة دم واحدة ، وما كان من حروب لم يكن موجهاً للشعوب ، ولم يكن إكراهاً على اعتناق الدين ، وإنما كان إزالة للطواغيت التي تقف حاجزاً دون اختيار الشعوب وحريتها في تقرير المصير و الوقائع كثيرة لا تحتاج إلى دليل .
38- أما الآن فقد يثور السؤال ... ولماذا توقف منهج الله عن العطاء ؟ وتبادر فنقول إن التوقف جاء منا لا منه .
فنحن أعطيناه ظهورنا وأعرضنا عنه كالذي يعطى ظهره للشمس ويجعل بينه وبينها سداً؛ فلا يراها ثم يتساءل: لماذا لا نرى الشمس أو لماذا لا تدفئنا الشمس؟ { وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .
ولا يزال منهج الله قادراً على العطاء كلما عدنا إليه ، ولا يزال وعد الله دائماً لا يتخلف متى تحققت شروطه .
{ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز } .
{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }
منقول – بتصرف ـ من كتاب المباديء الخمسة للمستشار الدكتور علي جريشة رحمه الله.