- محنة اعتقال الإخوان أفرزت تجربةً فريدةً في تاريخ الدعاة

- صلاة الفجر في رمضان بشعبة العباسية كانت مثل الجمعة

- أعضاء مكتب الإرشاد كانوا يأخذون إجازةً للاعتكاف معنا في العشر الأواخر

الداعية أحمد أبو شادي، أحد الرعيل الأول للإخوان المسلمين، صاحب صفحةٍ مشرفةٍ في تاريخ الوطن، عانى- مثل غيره من رجالات الإخوان- من الظلم والطغيان بعد الثورة، وتم القبض عليه عام 1954م، ثم أُعيد اعتقاله مرةً أخرى في محنة الستينيات، وهو من مواليد أبريل 1928م، في قرية "تفهنا العزب" مركز زفتى بمحافظة الغربية، تعلم في كُتَّاب القرية، والتحق بالمدرسة الابتدائية، وتدرَّج في الشهادات، حتى حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1958م، وعقب خروجه من السجن عام 1974م عمل بالكويت حتى الغزو العراقي عام 1990م، ثم عاد إلى مصر ليتفرَّغ للدعوة، ورغم أنه اقترب من الثمانين من عمره إلا أن دعوته ما زالت هي شغله الشاغل، فهو ينتظر رمضان بفارغ الصبر ليصوم نهاره ويقوم ليله، وقد التقينا به ليروي لنا صفحاتٍ من تاريخ نضاله المشرِّف:

 * لو بدأنا بالنشأة.. كيف كانت؟!

** نشأتُ في بيئةٍ كانت حريصةً على تعلُّم القرآن الكريم، فرغم اشتغال والدي بالزراعة، إلا أنه كان محبًّا للقرآن الكريم وتاليًا له، كما أنه كان حريصًا على حضور دروس الفقه في القرية، وكانت أمنية والدي أن يراني بالمسجد الجامع خطيبًا ألقِّن الناسَ دروسَ الفقه؛ ولذلك دفع بي وأنا في الخامسة إلى كُتَّاب القرية، وعزف عن إلحاقي بالمدرسة الإلزامية؛ كي أتفرَّغ للقرآن، ولم يعبأ بما فُرض عليه من مخالفاتٍ مالية، وحظر على أهل الدار أن يكلفني أحدٌ بأي أمرٍ مهما كان بسيطًا، قائلاً لهم: "إنني قد وهبته للقرآن فقط"، وحينما بلغتُ سن 12 سنةً ألحقني والدي بمعهد طنطا الأحمدي، ولكن للأسف لم أوفَّق؛ لأن الشيخ الذي كان يعلِّمُني القرآن فاته أن يُدرِّس لي الحساب الذي امتحنوني فيه في الأحمدي، فلم أوفَّق، وكانت صدمةً لي ولوالدي، وعاودت الكرّة مرةً أخرى، ولم أوفَّق، فالتحقْتُ بمعهد المنشاوي العام، ثمَّ عاودت الكرَّة مع الأحمدي ولم أوفَّق، فعُدت إلى بلدتي؛ ولأنني لم أعمل بالزراعة فظللت فترةً لا أعمل، وكان الجميع يعايرني بالفشل.

وذات يوم جاء أحد أصدقاء والدي لزيارته، ونصحه بإرسالي إلى مدرسة زفتى الأهلية، واسمها "أمير الصعيد"، وكانت تقبل التلاميذ كبار السن، وكان والدي غير مقتنع بهذه الفكرة؛ لأنه كان يعتقد أن هذه المدارس تفشل في تعليم أمور الدين، ودخلت المدرسة، وتفوقتُ فيها، وكنتُ الأولَ في سنيِّ دراستي؛ لأنني كنتُ راغبًا في عمل شيء لاسترداد كرامتي، خاصةً أني قد اشتهرتُ في بلدتي بـ(الساقط)، وحصلتُ على الابتدائية وكانت فرحةً كبيرةً "أحمد أفندي أخذ الشهادة"، فعملتُ كاتبًا بوزارة الدفاع، إلا أنني وجدتُ نفسي أقل المؤهلات، فدخلتُ مدرسةً ليليةً، وحصلتُ على الثقافة، ثم التوجيهية، ثم التحقتُ بكلية الحقوق عام 1950م، وحصلتُ على الشهادة عام 1958م لظروف السجن، كما عملتُ في وزارة العدل لفترة، وبعد خروجي من السجن 1974م سافرتُ إلى الكويت وعملتُ مستشارًا قانونيًّا لديوان المحاسبة في الكويت حتى عام 1990م ثم عدتُ إلى مصر.

رمضان القرية

* غالبًا ما تكون القرية علامةً في حياة كل إنسان بشكلٍ عام ورمضان بشكلٍ خاص، فماذا كان يُمثِّل رمضان لك في القرية؟

** أذكر وأنا صغير أن الشيخ "عبد الوهاب وهدان"- عمدة القرية- كان عالمًا فذًّا وخطيبًا مفوَّهًا لبقًا، وكان في ليالي رمضان يمرُّ على البيوت ويرافقه شيخ البلد وخفير يحمل (كلوبًا) وآخَر يحمل سلاَّت الفاكهة يوزعها على صغار القُرَّاء تشجيعًا لهم، وفي الصباح يتقابل الصغار ويتباهون بما حصلوا عليه من جوائز، كما كان يعطي القرَّاء الصغار (العيدية)، كلٌّ على حسب حفظه وقراءته، كما كان والدي يُحيي رمضان بالقرآن، فيستضيف في المندرة "دار ضيافة كبيرة" أحد الشيوخ الحافظين لكتاب الله، وتبدأ القراءة من بعد صلاة التراويح وحتى السحور، ويجتمع في بيتنا كل مَن يريد الاستماع إلى الشيخ من أهل القرية.

وقد حرصتُ منذ طفولتي على مصاحبة هذا الشيخ ومنافسته، وكان عمري وقتها عشر سنوات، وكنت أقرأ مع هذا الشيخ بالتبادل، كلما تعب قرأتُ أنا وكلما تعبتُ قرأ هو، وهنا أنوه إلى أهمية تربية الأطفال منذ سن سبع سنوات على الصلاة والقرآن والصيام، وأن نتبع معهم الأساليب الطيبة لنحببهم في العبادات، ففي الصيام مثلاً علينا أن نُقدِّم لهم الألعاب المسلية لنلهيهم عن التفكير في الطعام ونتدرج معهم حتى لا ننفرهم، فمَن تعود في السابعة سيتم صيام الشهر كاملاً في سن العاشرة وهكذا في سائر العبادات.

 معرفة الإخوان

* هذا ما يُمثله لك رمضان في الصغر.. وماذا بعد ذلك من ذكريات؟

** رمضان بالنسبة لي كان فاتحة الخير؛ حيث التحقتُ فيه بجماعة الإخوان المسلمين وكان تحديدًا في رمضان عام 1947م، وكنتُ قبلها منتسبًا لحزب الوفد، الذي كان مسيطرًا على الشارع السياسي في مصر، وكنتُ أرى أن الوفد فيه "النحاس باشا"، و"سليمان زكي باشا"، و"فؤاد سراج الدين باشا"، فلماذا أنضمُّ إلى "حسن البنا" المدرس الابتدائي؟!

وذات مرة دعاني أحد أقاربي، وهو الحاج "إبراهيم سلامة" للانضمام إلى الإخوان المسلمين، وقال لي: تعالَ يا أحمد ندخل الإخوان، سنطبق الشريعة، ونمنع الخمور والزنا، وكنتُ أرفض الاستجابةَ له للأسباب السابقة، وعندما كنتُ في القاهرة دعاني ذات مرةٍ للإفطار في منزله بالعباسية، وقال لي عقب الإفطار إن الشيخ "حسن البنا" سوف يلقي محاضرةً في أحد ميادين العباسية، كانت لديَّ فكرة أن الإخوان جماعة عمَّال وفلاحين غير منظمين.. إلا أنني عندما دخلتُ السرادق ذُهِلت لِما شاهدتُه من وجوهٍ يبدو عليها أنَّها متعلمة ومثقَّفة، وكانت المفاجأة عندما دعاني مقدم الحفل لافتتاح الحفل بقراءة القرآن الكريم، وقرأتُ القرآن إلى أن جاء الشيخ "حسن البنا"، وتعالت الهتافات: "الله أكبر ولله الحمد"، وسلمتُ على الشيخ "حسن"، وقال لي: تقبَّل الله.. ففوجئتُ بنفسي أقبِّل يديه، وكانت هذه أول مرة أسمع له، وتأثرتُ بحديثه؛ حيث قال حديثًا لم أتعوَّد عليه.

وأذكر مما قاله: "إذا كانت بريطانيا تزعم أنها سيدة البحار، وأنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وإذا كانت روسيا تزعم أن لديها الجيش الأحمر، وإذا كانت أمريكا تتباهى بالقنبلة الذرية... فإننا لدينا ما هو أقوى من ذلك كله، وهو الإيمان بالله"، وفاض في الحديث عن الإيمان، ولفت نظري إجابته على الأسئلة؛ حيث كان يجيب عليها، وكأنه يقرأ من كتاب، فأدركتُ وقتها أن هذا الرجلَ بحرٌ من العلم، وبدأت منذ ذلك الحين أتابع جريدة الإخوان المسلمين، ثم التحقتُ بكلية الحقوق.

وفي الجامعة كانت الحركات السياسية تظهر بشكلٍ أكبر من ظهورها في الشارع، وعندما كنت أذهب للصلاة في مسجد الجامعة كنت أجد مجموعةً من الإخوان، فأصبح هناك تجاوبٌ إلى أن أعطاني أحدهم كتابًا هديةً، كان لهذا الكتاب الفضل في تغيير حياتي وهو كتاب "الإسلام وأوضاعنا القانونية" للشهيد "عبد القادر عودة"، ثم التحقتُ بشعبة العباسية، وكانت من أعظم شُعَب القطر كله؛ حيث يتركز بها سلاح الصيانة وسلاح المهندسين وكثيرٌ من الكليات الجامعية، وكانت هذه الشعبة كخلية نحل، ولم يكن هناك أي قيود، وكانت هناك عادةٌ طيبةٌ في شهر رمضان؛ حيث كانت الشُعبة تدعو بعضها البعض إلى الإفطار، وكنّا في رمضان نوزِّع أنفسنا في حي العباسية على أربع مجموعاتٍ تتحرك في أربعة اتجاهات لإيقاظ الناس لصلاة الفجر، فكانت المساجد وقت صلاة الفجر مثل صلاة الجمعة!

وكنا نجمع الزكاة ونوزعها على الأهالي في الشعبة؛ فمن أهداف الجماعة خدمة البنية التحتية للجماهير، وكان الجميع في العشر الأواخر يدخل الاعتكاف، بمَن فيهم أعضاء مكتب الإرشاد الذي كان يأخذ إجازةً؛ من أجل الاعتكاف.

الإخوان والثورة

* في هذه الفترة كانت مصر مليئةً بالحركات السياسية التي نتجت عنها ثورة يوليو.. فكيف كانت هذه الفترة؟

** لا يخفي على أحد أن جماعة الإخوان المسلمين هي السبب الرئيسي للثورة، وهي الأم لتنظيم الضباط الأحرار، والتاريخ أوضح ذلك في أكثر من شهادةٍ لمؤرخي وقادة الثورة أنفسهم، ودور عبد المنعم عبد الرءوف كان معلومًا، بل إن عددًا من قيادات الضباط الأحرار كانوا أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، وفي بداية الثورة كنا نشعر أنها "بتاعتنَا" فنحن الذين قمنا بتأمين مداخل ومخارج القاهرة والبنايات الهامة والمؤسسات الوطنية، ولكن بعد أقل من عام انقلب الوضع وبدأ الوجه الآخر لقادة الثورة، حتى جاء عام 1954 ليبدأ التنكيل بالإخوان، سواءٌ على مستوى القمة أو القاعدة.

* أين كنتَ في هذه الفترة؟

** كنت مثل غيري من الإخوان في المعتقل؛ حيث اعتقلتُ في 54 وقضيت رمضانين في المعتقل، ثم اعتقلت مرة أخرى من 65 إلى 71، وبمناسبة رمضان فإن هذا الشهر يحمل نكهةً خاصةً جدًّا ومشاعرَ لا يسعني التعبير عنها؛ حيث كان يجتمع ما بين 20 إلى 30 أخًا، هم مجموع الإخوان في العنبر الواحد؛ لنصلي الفروض الخمسة جماعةً في أوقاتها، وأحيانًا كانت تُتاح لنا الفرصة للنزول جميعًا من جميع العنابر للصلاة، أما التراويح والتهجد فكنا نصليهما داخل الزنزانة، وهناك لا شيء نفعله سوى الصلاة والقرآن والذكر والدعاء، فكانت دورةً إيمانيةً مكثفةً على أعلى مستوى، لم تكن تُتاح لنا خارج السجن.

* ماذا تذكر من مواقف في هذه الفترة؟

** من المواقف التي لا أنساها خلال فترة السجن، ما حدث أثناء تحقيقات عام 65، فقد أجريت معي تحقيقات انتهت ببراءتي، وعادةً ما يصاحب التحقيقات تعذيب شديد نظل على أثره منهكي القوى تمامًا لأيام عديدة، وبعد انتهاء التحقيقات بيومين سمعتُ الشاويش ينادي اسمي مرةً أخرى، فأجبته، فقال مطلوب للتحقيق، وكنتُ ما زلتُ متعبًا جدًّا، فضاق صدري لذلك أيما ضيق وأصابني همٌّ وغمٌّ شديدان، ولكني لا أملك سوى أن أُنفِّذ الأوامر، ونزلتُ إلى مكان التحقيق مع الإخوان الواردة أسماؤهم في الكشف الجديد، وبدأ التحضير للتحقيق من جديد، وقد أمرونا أن نكرر حركة "جلوس ثم وقوف" بشكلٍ متواصلٍ وكنا في شهر أغسطس، وهو شهر شديد الحرارة والرطوبة، وكانت غرفة التحقيق قريبةً جدًّا، كي نسمع أصوات تعذيب إخواننا الذين يجري معهم التحقيق، والهدف من هذا كله تحطيمنا نفسيًّا، لننهار ونعترف إذا ما بدأ التحقيق معنا، وعادة ما تستمر حركة الجلوس ثم الوقوف لساعةٍ كاملةٍ أو أكثر "حسب مزاج الشاويش"، وألهمني الله أن أعتبرها سجدةً حتى يخفف عني من ألمها وعنائها، فكنت عند النزول أقول: "سبحان ربي الأعلى"، وعند الصعود أردد: "حسبي الله ونعم الوكيل"، وفجأةً سمعتُ صوت أحد الضباط كان زميلاً لي أيام الدراسة لكنه لم يكمل دراسته بالحقوق، والتحق بكلية الشرطة ليصبح ضابط مباحث، وقد استطعتُ تمييز صوته، واستبشرتُ بذلك أيما استبشار، وهمهمت في نفسي: "أهه سمير جالي أهه"، وفي نفس اللحظة وبمجرد أن أنهيت الهمهمة، تذكرت الآية الكريمة من سورة يوسف ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (يوسف: من الآية 42)، فأخذتُ أردد: "لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله"، واستغفرتُ ربي كثيرًا، كيف لي أن أترك رب العالمين، وأستعين بالعبد الذي لا يملك لنفسه شيئًا، "سامحني يا رب، أستغفر الله العظيم"، كيف أركن إلى بشر، كيف بعد التسبيح والدعاء أترك ربي وأستنجد بالبشر، وعدتُ إلى ربي وإلى دعائي، إلى أن جاء دوري، ونادوا اسمي، أحمد أبو شادي..

فترقبتُ بداية التعذيب من جديد، سألني المحقق عن اسمي، فأجبته، وهنا كانت المفاجأة، انطق الله أحد الجلادين، فقال: "يا أفندم الراجل ده حققوا معاه قبل كده"، فهو يعرفني لأنه يحضر التحقيق وتعذيب الجميع، وفهمتُ فيما بعد أن مَن ينتهون من التحقيق معه يتم شطب اسمه، لكن المحقق السابق نسي أن يشطب اسمي، فاستدعوني للتحقيق مرةً أخرى- نظر إليَّ المحقق وسألني: "حققوا معاك"، فقلتُ له: لا أعلم، لأني لم أكن أعلم فعلاً هل انتهى التحقيق معي أم لا، فقام ليحضر ملفًا كبيرًا، به جميع التحقيقات السابقة، فوجد اسمي ممن انتهى معهم التحقيق، فأمر أن أعود إلى الزنزانة، "مفيش حد حط إيده عليّ"، كنت أتوقع "ماتش جامد"، ودخلتُ على إخواني في العنبر، الجميع ينظر إليَّ وعلامات الدهشة والترقب تدور في أعينهم، فبادرتهم قبل أن يسألوا، ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ (آل عمران: من الآية 174)، لأني كنت أقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، والآية تقول ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾ (آل عمران)، قد تحققت الآية بكل معانيها، وتعلمنا منها أن جزاء "حسبي الله ونعم الوكيل" هو أنهم ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾، فعشنا جميعًا هذه المعاني العظيمة، وكأنَّ الآية نزلت لتوها من لدن رب العالمين، وهذه من المواقف العظيمة التي تبين أن تعلق الإنسان بالله تعالى وارتباطه به لا شك أنه عصمة للإنسان، فقد حقق الله لي ما لم أكن أحلم به، بعدما ظننتُ أني معذب لا محالة.

معاني الأخوة

 

* كيف أثَّرت هذه الروحانيات والمعاني السامية على التعامل بين الإخوان بعضهم البعض؟

** بالطبع كان لها بالغ الأثر، لمسنا ذلك جميعًا في العديد من المواقف، ففي اعتقال 65 أيضًا، وفي السجن الحربي، وما أدراك ما السجن الحربي.. جهنم بعينها؛ حيث الإصرار على القضاء على الإخوان القدامى- باعتبار أنهم سبب انضمام أعضاء جدد للجماعة-، وكان معنا الأستاذ محمود منصور وهو مستشار في جامعة الدول العربية، تم اعتقاله بسبب زيارته لي، وأثناء التحقيق سألني الضابط: "كنتم عاملين أُسر"، فنفيتُ له ذلك، لكنه كرر السؤال مرارًا، وتحت التعذيب الشديد، أضطررت أن أقول له ما يرضيه- ليس اعترافًا ولكن مجاراةً له فقط-، فقلت له نعم، فسألني عن أسماء مَن في الأسرة، فألفت له أسماء لا وجودَ لها ووضعت بينها أسماء إخوة لا يعرفون بعضهم من مختلف أنحاء القطر ومن المستحيل أن يكون بينهم لقاء أسبوعي، فسكت قليلاً، ثم أحضر ورقةً وطلب مني أن أعيد هذه الأسماء مرةً أخرى، فتنبهتُ إلى أنه كتب الأسماء التي ذكرتها ويريد التأكد من صحتها، فقلت له أسماء مختلفة تمامًا، فواجهني بأن الأسماء مختلفة، وسألني أي القائمتين هي الصحيحة؟، فأجبته ليست أيهما صحيحة ولكني قلت ذلك لأرضيك ما دمت مصرًّا على وجود أسر، فجُنَّ جنونه، وعاد ليحقق مع منصور، فسأله: "كنتم عاملين أُسر"؟، فقال: لا، فصرخ الضابط في وجهه قائلاً: أحمد أبو شادي قال كنتم عاملين أُسر!!، فأجابه منصور: نعم كنا عاملين أُسر، وهنا ظن الضابط أنه أمسك بطرف الخيط، وأنه سيصل إلى الحقيقة وسارع لمواجهتنا ببعض وقال: لا بد أن أصل إلى الحقيقة الآن وإلا.....، كنتم عاملين أُسر؟ فأجبته: لا لم تكن هناك أي أسر، وصدق منصور على كلامي قائلاً: "ما كناش عاملين أسر"، فكاد الضابط أن يجُنَّ وصرخ بصوتٍ أعلى موجهًا كلامه لمنصور: "أنت قلت كنتم عاملين أُسر مع أحمد أبو شادي"، فأجابه: "لما أنت قلت لي إنه قال كده ماحبتش أكذب أخويه"، وكان موقفًا رائعًا جدًّا أدهش الضابط، وجعله الله سببًا لانتهاء التحقيق في هذه الجزئية دون أن نعترف على أحد.

 يوم الجائزة

* وكيف كان أثر ذلك على الإخوان المعتقلين؟

** حدث عام 55 في السجن الحربي في إحدى الليالي.. طرق مجموعةٌ من الإخوان باب الزنزانة التي كانوا فيها ونادوا من شباكها ليطلبوا ماءً، وهذا تصرف عادي كثيرًا ما نفعله، لكن في هذه الليلة تمت معاقبتهم لذلك، حيث أُنزلوا جميعًا وضُربوا بقسوةٍ وعنفٍ شديدين، وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وسمعنا صراخهم لكن لم نستطع تمييز الأصوات أو معرفة السبب، وفي الصباح التقينا ببعضنا في الدور ورأينا إخواننا الذين ضُربوا وقد بدت عليهم علامات الضرب والتعذيب الشديد، وملأت الجراح والدماء وجوههم وأجسادهم، وحزنا جدًّا لما أصابهم فسألناهم وعرفنا السبب، وكان معنا الأستاذ ماهر خميس نقيب المحامين في المنصورة، وهو من كبار الإخوان، وكثيرًا ما قام بالتواصل بيننا وبين الشاويشية لتقريب وجهات النظر والحصول على بعض الحقوق، فذهب ومعه أحد الإخوان الكبار أيضًا للشاويشية وكلموهم وأبلغوهم بأن الجميع في قمة الغضب مما حدث بالأمس، وأنه لا بد من امتصاص هذا الغضب، فسألهما الشاويشية: "طيب أنتم عاوزين إيه؟".

فاقترحا أن ننزل جميعًا إلى ساحة السجن ويقوم أحد الإخوان بقراءة قرآن، حتى يهدأ الجميع، فوافق الشاويشية، وكان يومًا تاريخيًّا، نزلنا جميعًا إلى "الحوش"، واخترنا أحد الإخوان المعروف بحسن صوته واختياره للآيات المناسبة للحال، فقرأ، ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)﴾ (إبراهيم)، فكنا نستمع لهذه الآيات وكأنَّ الوحي يتنزل علينا ليخاطبنا نحن دون جميع البشر بهذه الآيات الكريمة، وتابع: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)﴾ (إبراهيم)، حتى وصل إلى الآية الكريمة ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)﴾ (إبراهيم)، فبكينا جميعًا وأستشعرنا أنها رسالة من الله العزيز الحكيم ليمسح بها على قلوبنا ويثبتنا، ثم تابع من بعده أخ آخر، فقال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)﴾ (آل عمران)، فتتابعت دموعنا منهمرةً وأستشعرنا عظمة أن نتلقى عزاءنا من الله وحده، بعد ما أصابنا من إيذاءٍ بدني ونفسي، وعشنا فترةً روحانيةً رائعةً جدًّا لم أعش مثلها إلا في بيت الله الحرام عند الكعبة، مسحت كل آلامنا. ثم ألقى الأخ محمد فريد عبد الخالق كلمةً رائعةً، قال فيها: "هذه المحنة هي منحة من الله عز وجل، فقد جاء بنا الله إلى هذا المكان لنتربى كما تربى موسى في حجر فرعون".

ثم حان موعد أذان المغرب، فاستأذن أحد الإخوان ليرفع الأذان، وارتفع صوت "الله أكبر الله أكبر" مدويًا، في مكانٍ شهد من قبل أحلك اللحظات،- فقد كنا نطلق على هذا المكان اسم "الغابة" لما فيه من ضربٍ وتعذيبٍ وحشي- لكن نداء الله أكبر أحدث رهبةً ووقعًا في نفوس الجميع، تابعتها رهبة الإقامة ثم الصلاة، وانتهى اليوم الإيماني بعد صلاة المغرب وعدنا كلٌّ إلى زنزانته، ولكن بقلوبٍ غير التي ذهبنا بها، وكأنَّ الله مسح على قلوبنا، فمحا منها كل أثر لما لاقينا. فكان يوم جائزة من عند الله.

مع المرشدين

* لقد عاصرت المرشدين جميعهم، هل لك أن تصف لنا كلاًّ منهم في كلمات قليلة؟

** الإمام حسن البنا، هدية الله لهذه الأمة، وقد عاصرته ولكني لم أعايشه، فقد حضرتُ له عددًا من المحاضرات، ولكني تأثرتُ به أكثر بعد استشهاده، حيث أقبلتُ على قراءة الرسائل وتأثرتُ بها جدًّا، ومشهور بين الإخوان أني أكاد أحفظ الرسائل عن ظهر قلب، وأقول إنه هدية الله للأمة؛ لأنه استطاع- بفضل الله عزَّ وجل بما وهبه الله من موهبةٍ وإخلاصٍ وتجرُّد للدعوة ونفس وروح وهمة عالية-، أن يخرج الشباب من الحانات والخمارات إلى المساجد، حتى ملأت دعوته المدارس والجامعات، والنقابات، فهو مَن نشر الفكر الإسلامي الصحيح والمنهج الرباني والمتكامل الشامل، وهو مَن وضع النواة وأسس لهذا البناء، فقد عرض الإسلام عرضًا جيدًا ليس فيه تعنت أو تشدد، عرضًا هينًا لينًا بينًا، حبب الشباب والناس جميعًا باللين والهدوء، رحمه الله تتلمذ على يديه أساتذة العالم، حتى مدرسوه في المراحل الدراسية المختلفة كانوا تلامذته في الدعوة، ومنهم الأستاذ محمد عطية، الذي كان معلمه في المرحلة الابتدائية، والمستشار حسن الهضيبي، والمستشار عبد القادر عودة، وهم مَن هم، جميعهم تلاميذ حسن البنا، على الرغم من أنه كان مدرسًا ابتدائيًّا، ولكن ليس أي مدرس، شهد له الجميع بأنه المجدد للقرن الماضي، قال عنه الهضيبي رحمه الله: "خطب حسن البنا ساعةً وأربعين دقيقةً فما شعرت فيها بملل ولا تعب، وما سمعت في حياتي خطيبًا إلا تمنيتُ أن ينتهي من كلامه في أقرب وقت إلا حسن البنا تعلقت أبصارنا به وأحسست أن هالةً من النور تحيط بوجهه كان كلامه كالجدول الرقراق، لا علو فيه ولا انخفاض، أو كالموسيقى العذبة ليس فيها نشاز، كان كلامه يخرج من القلب إلى القلب، شأن المؤمن إذا أخلص النية لله. وانتهى الحفل ورد الإمام البنا إلى الناس قلوبهم، أما أنا فقد أبى أن يرد إليَّ قلبي".

أما المستشار حسن الهضيبي، فكان يمتاز بالرزانة والهدوء والعقلانية، وقد واجه حكمًا عسكريًّا ظالمًا، ولو كان غيره لما استطاع أن يواجه هذه المحنة!، فلكل مرحلةٍ رجالها وكان الهضيبي بحق هو رجل تلك المرحلة.

 

ثم يجيء الأستاذ عمر التلمساني، صاحب نفس شفافة وقلب رقيق، حتى إن البعض اعترض على اختياره مرشدًا، لكنه قام بدوره كأحسن ما يكون، وفي عهده ازدهرت حركة الصحوة الإسلامية، وانضم الكثير من الشباب إلى جماعة الإخوان، فقد كان هادئًا عفيفَ اللسان والقلم مما جذب الناس إليه وإلى دعوة الإخوان، وكلنا يعرف موقفه القوي عندما أهان الرئيس السادات الإخوان أمامه، فوقف التلمساني في وجهه قائلاً: لو كان أحد غيرك شتمني وأنت رئيس الجمهورية لشكوته إليك، أما وأنت تتهمني فإلى مَن أشكوك؟ أشكوك إلى الله، أشكوك إلى الله، فقال السادات: اسحب شكواك يا عمر إني أخاف الله، قال التلمساني: "قد رفعتها إلى إلهٍ عادلٍ يريحني ويريحك"، ولم يكن غيره يجرؤ على فعل ذلك أبدًا، لكنها قوة الإيمان التي لا تتعارض مع شفافية النفس ورقة القلب، بل إن جميع هذه الصفات مصدرها واحد.

أما الأستاذ محمد حامد أبو النصر فكان أول مَن أنشأ مركزًا لجماعة الإخوان في الصعيد، فقد كان من أثرياء الصعيد، وكان رجلاً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ. حُكم عليه بـ25 عامًا، وحاول عبد الناصر أن يستميله إليه فأرسل إليه رسولاً، فأجاب الرسول بأن يرجع من حيث أتى لا أرى وجهه!.

ويأتي الأستاذ مصطفى مشهور ليستكمل البناء الذي بدأه البنا، وذلك واضح من كتاباته في فقه الدعوة، وتحركاته العملية، بعد خروج الإخوان من المعتقل، فقد كان ضمن 5 أشخاص هم مَن أعادوا بناء الإخوان، كان منهم التلمساني، ومشهور، والجابري، والبساطي.

أما المستشار المأمون الهضيبي فهو رجلٌ تقي ورع حفظ القرآن في ستة أشهر، وقد اعتقلتُ معه في 54، ثم في 65، وكان له صلابة والده في الحق، والآن الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد الهمام صاحب العزيمة والإرادة القوية.

 يومي في رمضان

* بعد صفحات التاريخ التي قلَّبناها معًا، كيف تقضي يومك في رمضان؟

** عادةً أقرأ وردي من القرآن بعد الفجر مع أذكار الصباح، ثم أُصلي الضحى، وأنام قليلاًَ، ثم أستيقظ للمطالعة وبعض الأعمال الروتينية، وعادةً ما يكون هناك درس بين العصر والمغرب ثم يبدأ البرنامج الليلي.

* وبعد الإفطار، كيف تقضي ليل رمضان؟

** أُصلي بالناس إمامًا منذ عام 70، وأُصلي التراويح بجزءٍ كامل، ثم نتهجد في العشر الأواخر بثلاثة أجزاء في الليلة، ونختم ختمة التراويح في ليلة 27 علها تكون ليلة القدر، ثم ختمة التهجد في ليلة 29 علها تكون آخر ليلةٍ من رمضان ويعتق الله فيها من النار بقدر ما أعتق طوال الشهر، وحتى عندما سافرت إلى الكويت منذ عام 74 إلى عام 80 اتبعت نفس الأسلوب، كما كنتُ أحرص على عمل حلقات تعليم تجويد في رمضان لما رأيته من الناس من إقبالٍ شديدٍ على القرآن في هذا الشهر الكريم وتعلق قلوبهم به، فبالرغم عما يتردد من الجميع من ضيق الوقت، ولكن لاقت هذه الفكرة نجاحًا وقبولاً كبيرين، واستطاع عدد كبير من الناس أن يقرءوا بصورةٍ صحيحة، فقد كنا نعلمهم القراءةَ الصحيحةَ تلقينًا، بعيدًا عن الاصطلاحات العلمية والأحكام، ونجحنا في ذلك بفضل الله.

* هل هناك مَن تتذكرهم أثناء قراءتك ورد الرابطة؟

** عندما أقرأ ورد الرابطة في رمضان وفي غير رمضان أدعو لكل مسلم، وأتجول في كلِّ بلاد المسلمين، وأدعو لأبناء الصحوة الإسلامية، في الأردن، في السودان، في الخليج، في الجزائر، وفي كل مكان، كما أدعو لقيادتنا أعضاء مكتب الإرشاد، ومجلس الشعب، فأنا أعلم ثقل الأمانة، وفَّقهم الله وأعانهم.. كذلك أدعو لكل مَن يعرفني، ولكل مَن أصلي بهم إمامًا، فقد ارتبطتُ وجوهُهم عندي برمضان وأتذكَّرهم بالدعاء وأشتاق إليهم كلما اشتقتُ لصلاة التراويح.

------

سبق نشر هذا الحوار في (إخوان أون لاين) في سبتمبر 2007م