كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله

في وقت التحام الجيوش، حين تتزايد الضربات، ويطول وقت المعركة، وتتزايد المخاوف وتضطرب الحسابات، هنا يكون دور الإيمان واليقين دورا حاسما وفاصلا، وعاملا مهما في تحديد نتيجة المعركة.

في مثل هذا الوقت، انقسم جيش طالوت حين نقص زادهم من الماء والطعام ولاح أمام أعينهم جيش جالوت بضخامته وكثرته، فقال بعضهم: "لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، بينما رد عليهم المؤمنون الذين يظنون أنهم ملاقو الله: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين". 

والمتأمل في كل الأحداث والحروب والباحث في نتيجتها ومآلاتها، يكاد يتعجب من أن هذه هي الحقيقة الواضحة وضوح الشمس والتي تعلن عن نفسها في كل مرة، ويعرفها العارفون بينما يغفل عنها الغافلون، وهي أن المؤمنين بالله الواثقين بعدالة بقضيتهم، المدافعين عن حقهم ودينهم وأرضهم حتى لو كانوا قلة في العدد، هم من ينتصرون في النهاية على من يظلمهم ويسلب حقوقهم ويحتل أرضهم حتى لو كان كثير العدد والعتاد. 

يقول الشهيد سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن": "فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار. ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة. قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين. وهم يكلون هذا النصر لله: (بإذن الله)، ويعللونه بعلته الحقيقية: (والله مع الصابرين)، فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل".

حقائق تاريخية

وكثيرة جدا هي الحالات التي انتصرت فيها "القلة المؤمنة" على "الكثرة الباغية الطاغية" وتكرر هذا النموذج كثيرا على طول التاريخ وعرض الجغرافيا. 

انظر إلى أعداد المؤمنين وعتادهم، وقارن بينها وبين أعداد وعتاد أعدائهم في غزوات بدر والأحزاب ومؤتة وتبوك وحنين، وفتح مكة، وفي معارك القادسية، ووادي لكة، وأجنادين، وذات الصواري، ونهاوند، والدونونية، وحطين وعين جالوت والزلاقة وملاذ كرد والعاشر من رمضان وغيرها الكثير مما يصعب حصره.. 

تخيل أن كل هذه الحروب الفارقة كان المؤمنون فيها أقل عددا وأضعف عتادا من عدوهم، وكان في بعض هذه المعارك يبلغ عدد جيش المسلمين نحو 10 % من عدد جيش أعدائهم كما في معركة وادي لكة، ولكنهم انتصروا وغيروا التاريخ في كل معركة من هذه المعارك، هذه ليست صدفة، ولكنها إعلان لتلك الحقيقة التي تسفر عن نفسها بوضوح في كل مرة، من امتلك الإيمان انتصر، ومن فقد الإيمان هُزم.

من أراد أن يفهم سر هذا الأمر، سيجد أن هناك الكثير من العوامل التي تبدأ بمعية الله لصاحب الحق إذا خرج يجاهد لنصرة حقه واستعادته، وصبر على ذلك، فيربط اللهُ على قلبه ويثبت قدمه ويسدد رميه ويلقي الرعب في قلب عدوه المغتصب للحقوق الذي يدرك أنه سارق وقاتل وشاذ وطارئ. 

والملاحظ أن المسلمين في تاريخهم لم يقاتلوا إلا من هم كانوا أكثر عددا منهم، وأشار الإمام برهان الدين البقاعي في تفسيره إلى هذه الحقيقة وهو يتحدث عن سورة الأنفال، فقال: (واسْمُها الجِهادُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الكُفّارَ دائِمًا أضْعافُ المُسْلِمِينَ وما جاهَدَ قَوْمٌ مِن أهْلِ الإسْلامِ قَطُّ إلّا أكْثَرَ مِنهُمْ، وتَجِبُ مُصابَرَةُ الضّعْفِ، فَلَوْ كانَ النَّظَرُ إلى غَيْرِ قُوَّتِه سُبْحانَهُ ما أُطِيقَ ذَلِكَ، ولِهَذِهِ المَقاصِدِ سُنَّتْ قِراءَتُها في الجِهادِ لِتَنْشِيطِ المُؤْمِنِينَ لِلْجِلادِ، وإنْ كَثُرَتْ مِنَ الأعادِي الجُمُوعُ والأعْدادُ، وتَوالَتْ إلَيْهِمْ زُمَرُ الأمْدادِ مِن سائِرِ العِبادِ)

معركة الحق والباطل

والحقيقة أن انتصار القلة المؤمنة على الكثرة الطاغية تكون نتاج تفاعلات نفسية وقلبية وعقليةووجدانية إيجابية تجري لسنوات طويلة في داخل نفس المؤمن صاحب الحق، وتفاعلات أخرى نفسية وقلبية وعقلية سلبية تتفاعل طويلا في داخل نفس السارق المحتل والباغي المعتل، وتفضي محصلتها في النهاية إلى ثبات المؤمن الحق وانتصاره حتى لو كان ضعيفا وقليلا، وفرار المحتل السارق وانهزامه حتى لو كان ضخما ومنتفشا.  

فالإيمان بقضية حق عادلة والقتال عنها، هذا أمر في حد ذاته يمنح صاحبه قوة جبارة تدفعه لبذل الغالي والنفيس في سبيل نصرة حقه حتى يسترخص الدنيا بكل ما فيها، فإذا ما جمع الصبر والجهاد إلى جانب امتلاكه الحق والإيمان، فلن يقف أمام قوته وجهاده كثرة عدد ولا قوة سلاح ولا حشد أحزاب.  

أما إذا فقدت الكثرةُ الحقَ؛ فهي في الحقيقة قد فقدت الشجاعة، وإذا وقعت الكثرةُ في حب الدنيا واغترت بمتعها وزخرفها، وتنافست فيما بينها على ما استولت عليه من حقوق الآخرين، امتلأت نفوسها بالهشاشة والضعف، حتى وإن بدا ظاهرها براقا قويا، ودبت الخلافات بين هذه الكثرة الخادعة، فتكون النتيجة هو أن يسري في جسدها الوهن والترهل، فإذا سدد أحدُهم ضربة متقنة لها في وقت مناسب ومكان مناسب، فستنكشف سوأتها ويفتضح ضعفها وتنقلب إلى مصيرها المحتوم ومآلها المهزوم، كما فعلها سيدنا داوود مع الطاغية جالوت قديما، وكما فعلها أبطال "طوفان الأقصى" في كيان الاحتلال الصهيوني حديثا.  

السر في كل ذلك هو كلمة واحدة عميقة اسمها "الإيمان"، من امتلكه انتصر، ومن فقده انهزم، هكذا بكل بساطة ووضوح، وبكل عنفوان وقوة أيضا.

يا بني آدم هذه هي المعادلة: "المؤمن ينتصر وغير المؤمن ينهزم"، يا للبساطة الواضحة التي يتغافل عنها الناس ويتعامون، ويضل عنها أكثرهم ويتوهون.

أي نعم ربما تطول أمد المعركة ويشارك فيها أجيال وراء أجيال، إلا أن نتيجتها النهائية ثابتة ومعروفة سلفا.

لذلك كان قادة الجيوش قديما يحرصون على تقوية معنويات جنودهم ورفع مستوى إيمانهم وطاعتهم لله، ويمنعون خروج المثبطين والمشككين معهم، حتى قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه "روضة الطالبين": "يُمنع المُخذِّل من الخروج في الجيش، ‏والمُخذِّل من يُخوِّف الناس، بأن يقول: أعدوُّنا كثير، وخيولنا ضعيفة، ولا طاقة لنا بهم، ونحو ذلك".

وتعبيرا عن هذه الحقيقة يقول الشيخ عبدالعزيز الطريفي فك الله أسره: "وقد يغلبُ الثابت بعصاه عدوه ولو كان معه سيف، فإنه إذا ضعُف قلبُ الإنسان، لم يُحسن تدبير ما بيديه، كما في القدس اليوم: يقتل المسلمُ اليهودي بحجر وسلاح اليهودي بيديه!"

ميدان النفس

وطريق انتصار المؤمن على أعدائه يبدأ من انتصاره على نفسه أولا، حين ينتصر على شهواتهوضعفه وعجزه وخوفه، ويقاوم هذه الأمور جميعا وينتصر عليها ويطور إمكانيته وينمي مواهبه ويصبر على ذلك، ويرتقى بنفسه عن الوقوع في وحول المعاصي والذنوب ويصحح أخطاءه ويتعلم من تجارب الآخرين، حين ينتصر على نفسه بقوة إيمانه، يكون انتصار على عدوه في الميدان أسهل.

كما أن غير المؤمن ينهزم في ساحة الحرب بسبب انهزامه في ميدان النفس أولاً، فهو بسبب ابتعاده عن قيم الإيمان وعدم تذوقه لحلاوته فإنه لا يستطيع أن ينتصر على نفسه فينهزم أمام شهواته وينهدم أمام ملذات الدنيا، فيغتر بزخارفها ومتعها ويغرف من مآثمها ومحرماتها، ويتصور أن قوته ستسمر طوال العمر، فيزداد غرورا يعميه عن حقيقة ضعفه ويتمنى أن يعيش خالدا في "جنته الدنيوية الدنية التي صنعها لنفسه بالحرام"، فيكون القتال أصعب على نفسه ويمتلئ قلبه بالجبن والخوف من المواجهة، حتى إذا اضطر للدخول في الحرب انهزم في ميدانها بسبب هزيمته داخل نفسه أولا.

هي النفس إذا، هي الميدان الأول للحرب، من انتصر عليها انتصر على أعدائه، ومن انهزم أمامها انهزم أمام أعدائه، لذلك تجري جولات كثيرة بين الخصوم للسيطرة على العقول وتشكيل الأفكار والتصورات، وهي المعركة التي تجري بشكل يومي وعلى مدار سنوات وعقود طويلة في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وخطط الاقتصاد وغيرها، وهي المعركة الطويلة المستمرة والتي تؤثر نتائجها بشكل مباشر في النتائج النهائية للحروب العسكرية.

لذلك يقول الإمام ابن القيم في كتاب: "زاد المعاد": "ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج ، وأصلا له ، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج ، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله ، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج".

 

طوفان الأقصى

لكنه لا يكفى امتلاك الإيمان مجردا، فلا بد أن يجمع المؤمن بين الإيمان والصبر والسعي وبذل الجهد لنصرة الحق، وفي حرب "طوفان الأقصى" الدائرة الآن اجتمعت كل هذه الأسباب وغيرها، فأهل غزة الآن يمتلكون الإيمان الصادق بالله والإيمان القوي بحقهم في تحرير أرضهم ودفاعهم عن مقدساتهم وتحرير أسراهم والعودة إلى بلادهم التي هجروا منها، كما يتواصون بالصبر فيما بينهم على استعادة حقوقهم منذ عقود، وصبروا على لأواء ومصاعب الحصار الإسرائيلي الخانق منذ 17 سنة، ويصبرون تحت قصف غاشم وجبان ويتمسكون بأرضهم ويقاومون مخططات تهجيرهم تحت نيران القصف والتجويع والتعطيش، ويتواصون بهذا الصبر رغم مرارته على حقهم رغم وضوحه ونصاعته. 

غير أن ما يجري في غزة هو أمر يهم جميع دول المنطقة ويؤثر على مستقبل المنطقة ككل، بل ربما يؤثر على شكل النظام العالمي في المستقبل القريب وربما البعيد أيضا، لذلك يجب أن يسري هذا الإيمان والصبر والجهاد الذي يجري في القطاع المحاصر إلى أرجاء دول المنطقة أيضا، ولا بد أن تجد غزة دعما قويا ومساندة حقيقية على كل المستويات كي تتكلل جهودها بالنصر بإذن الله، وأهل غزة وكل محبيهم يثقون في نصر الله لهم رغم أنف مخالفيهم ورغم خذلان أشقائهم.