بقلم: الشيخ محمد الغزالي
فتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز تضحك لهم خلال الأرض والسماء. إنّ هذا الظفر المتاح رد عليهم الحياة والأمل والكرامة، وخلّصهم من أغلال ثقال:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) [ال عمران] .
وكانت عدة من استشهد منهم أربعة عشر رجلا، استأثرت بهم رحمة الله، فذهبوا إلى عليّين.
ثبت عن أنس بن مالك: أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر، وكان في
النظّارة، أصابه سهم طائش فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله! أخبرني عن حارثة؟ فإن كان في الجنة صبرت، وإلا فليرينّ الله ما أصنع- تعني من النياحة- وكانت لم تحرّم بعد!! فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «ويحك أهبلت؟ إنّها جنان ثمان، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى … »
فإذا كان هذا جزاء النظّارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض إلى المنايا الغمرات الصعاب؟!.
في هذه المعركة التقى الاباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهم المبادئ، ففصلت بينهم السيوف، وفي عصرنا هذا قاتل الشيوعيون مواطنيهم، ومزّقوا أغلى الأواصر الإنسانية في سبيل ما يعتقدون؛ فلا عجب إذا رأيت الابن المؤمن يغاضب أباه الملحد، ويخاصمه في ذات الله!! والقتال الذي دار ب (بدر) سجّل صورا من هذا النوع الحاد: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابنه عبد الرحمن يقاتله مع أبي جهل، وكان عتبة بن ربيعة أول من بارز المسلمين، وكان ولده أبو حذيفة من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سحبت جثّة عتبة لترمى في القليب نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي حذيفة فإذا هو كثيب، قد تغيّر لونه، فقال له: «يا أبا حذيفة! لعلّك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟» فقال: لا والله يا رسول الله! ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنّي كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلمّا رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك!.
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا..
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين فطرحوا في القليب، وروي أنه قال عند مراهم: «بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم؛ كذّبتموني وصدّقني النّاس، وأخرجتموني واواني النّاس، وقاتلتموني ونصرني النّاس»
فلما ووريت جثثهم، وأهيل التراب على رفاتهم، انصرف الناس وهم يشعرون أنّ أئمة الكفر قد استراح الدين والدنيا من شرورهم؛ إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استعاد ماضيه الطويل في جهاد أولئك القوم، كم عالج مغاليقهم، وحاول هدايتهم؟! وكم ناشدهم الله، وخوّفهم عصيانه، وتلا عليهم قرانه؟! وهم- على طول التذكير- يتبجّحون، وبالله وآياته ورسوله يستهزئون، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل حتى بلغ القليب المطويّ على أهله، وسمعه الصحابة يقول: «يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! يا أمية بن خلف! يا أبا جهل بن هشام! هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقا» !.
فقال المسلمون: يا رسول الله! أتنادي قوما جيّفوا؟! قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم! ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني «
كانت واقعة بدر في السابع عشر من رمضان لسنتين من الهجرة، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثا، ثم قفل عائدا إلى المدينة يسوق أمامه الأسرى
والغنائم، ورأى قبل دخولها أن يعجّل البشرى إلى المسلمين المقيمين فيها؛ لأنهم لا يدرون مما حدث شيئا.
فأرسل عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة مبشّرين، يؤذنان الناس بالنصر العظيم.
قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عثمان بن عفان قد احتبس عندها يمرّضها بأمره صلى الله عليه وسلم، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بسهمه وأجره في بدر
وبرغم ما سجّله التاريخ من تجمّل ومواساة بين الأنصار والمهاجرين، فإنّ متاعب العيلة ومشكلات الفقر تمشّت خلال المجتمع الجديد؛ إن سترها التعفف حينا أبرزتها الحاجة حينا اخر، والأزمات التي تصاحب تكوين دولة من العدم وسط أمم تكيد لها، وتتربّص بها الدوائر، يجب أن تتوقع، وأن توطّن النفوس على احتمالها، وألا تكون حدّة الشعور بها سببا في ضعف السيرة وعجز الهمة..
وقد اخذ الله المسلمين- قبل معركة بدر وبعدها- بأمور بدرت منهم يحبّ لهم أن يتنزّهوا عنها، مهما بلغ من شدة الدوافع والمبررات لارتكابها.
فهم يوم خرجوا من يثرب لملاقاة مشركي مكة تعلّقت أمانيهم بإحراز العير وما تحمل من ذخائر ونفائس.
حقا إنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وضحّوا في سبيل الله بأنفسهم وأولادهم … فليمضوا في طريق الفداء إلى المرحلة الأخيرة، ومهما عضّهم الفقر بنابه، فليكن التنكيل بالكافرين أرجح في ميزانهم من الاستيلاء على الغنيمة:
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) [الأنفال] .
ومن هذا القبيل تسابقهم بعد النصر إلى حيازة الغنائم، ومحاولة كل فريق الاستئثار بها.
عن عبادة بن الصامت، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله العدوّ، فانطلقت طائفة في اثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم، يحوزونه، ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرّة، حتى إذا كان الليل، وفاء النّاس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم أحقّ بها منّا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به، فأنزل الله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) [الأنفال] .
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين
هذا التنازع المؤسف إثر البأساء الشاملة التي لحقت بالمهاجرين والأنصار على السواء، وقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مظاهر البؤس على أصحابه وهم خارجون إلى بدر؛ فرثى لحالهم، وتألّم لما بهم، وسأل الله أن يكشف كرباتهم.
فعن عبد الله بن عمرو ، قال: خرج رسول الله يوم (بدر) في ثلاثمئة وخمسة عشر رجلا من أصحابه، فلما انتهى إليها، قال: «اللهم إنّهم جياع فأشبعهم، اللهم إنّهم حفاة فاحملهم، اللهم إنّهم عراة فاكسهم» . ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا قد رجع بحمل أو حملين، واكتسوا وشبعوا.
إنّ الجوع والعري عند ما يطول أمدهما يتركان في النفوس ندوبا سيئة، ويدفعان الأفكار في مجرى ضيق كالح، على أنّ هذه الأزمات إن أخرجت العامة، وأهاجتهم إلى طلب الغذاء والكساء لأنفسهم وذراريهم بحرص ومجاهرة، فإن المؤمنين الكبار ينبغي أن يتماسكوا، وأن يكتموا أحاسيس الفاقة الملحّة فلا يتنازعوا على شيء. وذلك الأدب هو ما أخذ الله به المسلمين، وافتتح به السورة التي تحدثت عن القتال في بدر.
ذلك أنّ الخاصة من الرجال هم قدوة غيرهم، فإذا ساءت أخلاقهم للضوائق العارضة، واضطرب مسلكهم فسيكون سواد الشعب إلى مزالق الفوضى أسرع.