«شجرة الخلد وملك لا يبلى»، هكذا أضفى إبليس هذا الوصف البرّاق على الشجرة المُحرّمة، ليتسنّى للإنسان أن يتجاوز ما استقرّ في فطرته من النفور من القبيح، وصار بعدها هذا المسلك منهجا لكل من يريد قلب الحقائق واستبدالها بمسوخات فكرية هدامة.

ومما ارتدى هذا الثوب في عصرنا، قضية هدم ثوابت الدين وتفريغه من محتواه والعبث بأصوله، تحت مسمى الدعوة إلى تنقيح التراث الإسلامي.

ينبغي أن نفرق أولا بين الوحي والتراث الذي هو جهد بشري، فالوحي المتمثل في القرآن وصحيح السنة نصوص معصومة، لا يدخل في معنى التراث الإسلامي بالمفهوم الثقافي في أدبيات الفكر الحديث، الذي يعني عرض الجزء المتعلق بالوحي والجزء المتعلق بالجهد البشري معا على ميزان النقد والتنقيح.

ظهرت دعوة تنقيح التراث الإسلامي على أنها تهدف إلى تنقية الجهود البشرية عبر التاريخ الإسلامي، من فتاوى وآراء واجتهادات وتصانيف، إلا أنها في حقيقتها تتناول القضية بشقيها: الوحي المنزل، والجهد البشري، والدليل على ذلك أنهم ينادون بقراءة جديدة في النصوص الشرعية، تتفق مع روح العصر ومتطلباته، وهو تعرُّضٌ صريح للنص المنزل. المتأمل في مخرجات هذه الدعوة إلى تنقيح التراث، يدرك أنها تتعامل مع المُثْبت كأنه معدوم، فهي تطالب بالتعامل مع التراث، وفق قواعد هي في الأساس موجودة في هذا التراث، فهم يدعون إلى ترك التقليد الأعمى وكأنه ابتكار حداثي، مع أن التراث الإسلامي عامرٌ بالتطبيقات العملية لهذا الأصل، فكبار الأئمة كان دأبهم التواصي باتباع الدليل ونبذ التقليد الأعمى، فهذا الإمام الشافعي يقول: كُلُّ مَا قُلْتُهُ فَكَانَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خِلاَفُ قَوْلِي مِمَّا صَحَّ فَهُوَ أولى ولا تقلدوني. وقال أيضا: «إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كتَابِي خِلاَفَ سُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقُوْلُوا بِهَا وَدَعُوا مَا قُلْتُهُ». وقال الإمام مالك: «كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم». وكانوا ينهون أتباعهم عن التقليد، يقول الإمام أحمد: «لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا تقلدوا الشافعي وتعلموا كما تعلمنا»، وهذا محمول على من كان قادرا على أخذ الدليل وفهمه، أما العامي الذي لا يحسن النظر في الأدلة فيسوغ له أن يقلد من أهل العلم من يثق في دينه وأمانته وعلمه وتلقته الأمة بالقبول.

يتحدثون عن أنه ينبغي تحرير الفقه الإسلامي من الجمود، مع أن جهود العلماء كانت تصب في هذا الجانب، وليس أدل على ذلك من الموسوعات الفقهية الكبرى، التي أعدها العلماء مع ثرائها بالمناقشات للآراء الاجتهادية، كـ«المغني» لابن قدامة و»المحلى» لابن حزم. ومما يستندون إليه في دعوتهم لتنقية التراث، أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وكأنهم قد أتوا بالشاردة، وأي مُطّلع على كتب التراث يدرك، من دون عناء، أن هذا ما كان عليه علماء الأمة، حتى إن ابن القيم، رحمه الله، عدّ عدم مراعاة اختلاف العوائد والأمصار والأعراف في الفتوى جناية على الدين، فقال»مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، بَلْ هَذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ». ومن المعلوم أن الإمام الشافعي، رحمه الله، له مذهبان: القديم إبّان إقامته في العراق، والجديد بعد نزوله إلى مصر، وقطعا ليس المقصود باختلاف بعض المسائل في مذهبي الشافعي، ما يتعلق بأصول الدين والأحكام الشرعية الثابتة بدليل قطعي الثبوت والدلالة، وإنما المسائل التي هي من موارد الاجتهاد، فالأولى لا تتبدل والأخرى تتبدل باختلاف الزمان والمكان، وهذا يقوم به العلماء أهل الفتوى، وليس ذلك للسياسيين أو الإعلاميين ممن أقحموا آراءهم الشخصية في الدين وطوعوا نصوصه لأهوائهم. يرى أهل دعوة تنقيح التراث، أنه يجب تجاوز آراء العلماء الذين تحللت أجسادهم تحت الأرض، إلى ما يناسب هذا العصر، وكأن هذا الإرث الذي تركه العلماء هو سبب تخلفنا، إن علماء هذه الأمة وفقهاءها من أهل السنة، كانوا يوائمون بين الدين والدنيا، ويعيشون عصورهم ويتعاطون مع قضاياه واحتياجاته، لم يكونوا منفصلين عنه، والشافعي رحمه الله يقول: «لا تسكنن بلدا لا يكونن فيه عالم ينبئك عن دينك، ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك».

إن جهود العلماء والفقهاء نابضة لأنها موصولة بالوحيين، خصبة وصالحة للتعامل مع الواقع، لدرجة أن بعض رجال القانون في أوروبا أسسوا جمعية باسم «محمد بن الحسن الشيباني» صاحب الإمام أبي حنيفة، واصفين إياه بأنه «رائد لفقه القانون الدولي العام». وحتى يتجاوز هؤلاء التراث الإسلامي، فإنهم يتبعون منهج التفسير السياسي، فينبشون في التاريخ الإسلامي للتدليل على تأثير السياسة في الاجتهاد وطرق الاستدلال ومواقف العلماء، والبرهنة على أن الموروث الفقهي لم يكن مبنيا على النصوص الشرعية، وإنما كان مبنيا على الواقع السياسي، كما يزعمون، فهذا من أشد الأدوات التي يستخدمونها في قراءة التراث الإسلامي وتناولِه، وكثيرا ما يوقعهم في الارتباك والشطط والخطأ في سرد الحقائق التاريخية، فنصر أبو زيد يقول في بعض كتبه عن الإمام الشافعي، إنه الفقيه الوحيد من بين فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختارا راضيا، مع أن مولد الشافعي (سنة 150هـ) بعد زوال الدولة الأموية بقرابة عقدين من الزمان.

إننا مع دعوة تنقيح التراث الإسلامي إذا كان معناها تنقية كتب السنة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وهو ما قام عليه جمع غفير من العلماء.

ومع دعوة تنقيح التراث إذا كان معناها تنقيح الفتاوى والآراء الشاذة في كتب الفقهاء، مع أن دأب العلماء في كل عصر الرد على مثل هذه الآراء والفتاوى. ومع دعوة تنقيح التراث إذا كان معناها تنقية كتب السير والتراجم من الروايات مجهولة السند، والمبالغة في تقديس الأشخاص، علما بأن هذا ما يقوم به علماء الأمة. ومع دعوة تنقيح التراث إذا كان معناها ترك التقليد الأعمى، مع أنه مبدأ تراثي لا حداثي، لأن الشرع قد فتح باب الاجتهاد، ولا سبيل لأحد إغلاقه في أي زمان أو أي مكان.

إن التراث ينقح نفسه، وجهود العلماء الذين إليهم هذا الأمر، موصولة عبر الحقب المختلفة، لكنها دعوة إلى تجاوز الماضي بأسره، واعتماد منهج يقوم على مقاصد النفوس لا الشريعة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

كاتبة أردنية

المصدر: القدس العربي