رحل عنا تاركاً فراغا في ميادين ثلاثة ( الجهاد والعلم والدعوة )؛ فقد كان فارسا لايضاهيه أحد في هذه الميادين، رحل ونحن ننتظر أن يمنَّ الله على هذه الأمة بمن يملأ هذه الميادين، رحل مجاهد عصره وفقيه زمانه وداعية كل الأوقات العالم البحر الخطيب الأريب العلامة الشيخ الدكتور (يوسف القرضاوي ) رحل حصن العلم وحارسه الذي بقبض روحه انتقص العلم فقد روى عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا))؛ متفق عليه.
عاش القرضاوي قضايا الأمة رافعا لواء الزود عنها، مسخرا قلمه لحراسة الإسلام وما يطلق عليه من شبهات وأباطيل مفندا ما تدعيه التيارات المختلفة داعيا إلى الوسطية السمحة التي جاء بها الإسلام مبيناً قواعدها ومنظراً لأفكارها ، ناصحا الأمة بالبعد عن الغلو أو التهاون في الثوابت والأصول لهذا الدين .
مات رضي الله عنه فارس ميدان الجهاد الذي دوام فيه مجاهداً للظالمين من الحكام المستبدين فقد اعتقل منذ أول التحاقه بركب الدعوة المباركة دعوة الإخوان المسلمين وتعرّض العلامة القرضاوي وقتها إلى الاعتقال عدة مرات أولها عام 1949، وأخرى عام 1954، ثم في نوفمبر من نفس العام حيث استمر اعتقاله نحو 20 شهراً، وكذلك في 1963. وظل معتنقا لفكره عاملاً لدينه حتى أنه كان متبنيا مبدأ أن "الحرية "أصل من الكليات التي دعا إليها الإسلام .
مات مدافعا عن الحق، منافحاً للباطل لا ينفك إذا طلب منه الحديث أن يتحدث عن العدل والحرية، وما توانى يوما من الأيام أن يوضح ويظهر ذلك قولا وعملا حتى أنه قد صدر بحقه أحكام بالإعدام من قبل أنظمة مستبدة في مصر وسوريا، لقد ضرب لنا مثالاً حيا على الصبر والثبات يصدع بالحق ويجأر به فاعتقل وعذب وخرج مهاجرا فارا بدينه لكنه لم يبدل ولم يتغيرومات وهو على ذلك .
قد كان رحمة الله عليه جامعة علمية فقد جمع بين الفقه والحديث، والسلفية الأصيلة والحداثة المعاصرة ، والقيادة الحكيمة، والجندية المبصرة وبين سهولة اللفظ وعمق المعنى، وبين كثرة الأتباع وضراوة الأعداء ، وثباته عند البلاء وعند الرخاء وبين ثورة الشباب وحلم الشيوخ فحاز بكل ماسبق السبق بين أقرانه بل والتفوق على أساتذته فاستحق بجدارة " إمامة العصر في الإجتهاد " .
والناظر في كتبه وبحوثه ومؤلفاته يستيقن من أنه كاتب مفكر أصيل لا يكرر نفسه، ولا يقلد غيره، ولا يطرق من الموضوعات إلا ما يعتقد أنه يضيف فيه جديداً من تصحيح فهم، أو تأصيل فكر، أو توضيح غامض، أو تفصيل مجمل، أو رد شبهة، أو بيان حكمة أو نحو ذلك
قال مدير مجلة الأمة في تقديم كتاب "الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف" إنه من المفكرين الإسلاميين القلائل الذين يتميزون بالاعتدال ويجمعون بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر.
وقد ابتليت الأمة بفقدانه والمصاب فيه أشد ابتلاء، ونسأل الله أن يخلفنا خيراً منه، وقد قال عنه أستاذه الشيخ محمد الغزالي :القرضاوي من أئمة العصر، لقد سبق سبقا بعيدًا، الشيخ يوسف كان تلميذي، أما الآن فأنا تلميذه.
وقال عنه العلامة مصطفى الزرقا: القرضاوي حجة العصر، وهو من نِعَم الله على المسلمين.
لقد كان شامة بين العلماء يجمع ولا يفرق ، يسدد ويقارب تخرج من مدرسته المئات من الطلاب ولا نبالغ إذا قلنا أن الناهلين من علمه المتربيين على كتبه وأرائه الملايين في شتى أنحاء الأرض ، فقد كان عالما عاملا قدوة يقدم أروع أمثلة في ذلك وقد قال :
الشيخ محمد الحسن الددو: القرضاوي الوارث الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتنا هذا.
وقد أجمع كل من كتبوا عنه: أن مؤلفاته وكتاباته تجمع بين دقة الفقيه، وإشراقة الأديب، وحرارة الداعية، ونظرة المجدد.
ولقد كان رحمة الله عليه مثالا في الدعوة للإسلام في شتى بقاع الأرض فمنذ أن كان طالبا سافر إلى معظم محافظات مصر يدعو إلى الإسلام الوسطي والفكر المعتدل الذي تشربه من خلال نشأته في جماعة الإخوان المسلمين ثم ما لبث أن أرسلته إلى خارج مصر لأقطار مختلفة يبين وينشر هذا الفكر الذي يحمله ثم ما لبث أن أصبح يجوب في كل بقاع الأرض من أقصاها إلى أقصاها ينشر دين الإسلام على نهج النبوة السمحة يعرف الناس أن الإسلام دين لا مغالاة فيه ولا تشدد ولا تهاون في أحكامه وتشريعاته فقد التقى بكبار العلماء في الهند وباكستان وماليزيا وأوروبا وأمريكا ،سافر إلى بقاع لم يصل إليها غيره ، دعا فيها إلى الله وبشر بانتصار هذا الدين وظهوره وإنقاذه للبشرية من هذا التيه .
وللحديث بقية عن جانب آخر من جوانب حياة فقيد الأمة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي