إن تزكية النفس هدف من أهداف الرسالة الخاتمة، قال الله تعالى في شأن بعثة محمدًا- صلى الله عليه وسلم-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2)، واهتم الإسلام بتربية الإنسان على الأعمال الصالحات المزكيات للنفس، وتحدث عنها القرآن الكريم بمفردات عديدة، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103).

ولقد شغلت قضية تزكية النفس الكثير من العلماء والعارفين بالله، وهذا لأنّ النّفس دائمًا متقلّبة وبحاجة إلى مَن يُزكّيها ويطهّرها، ويحميها من دنس السّقوط في مراتبٍ لا تليق بالمسلم، ولا تؤهّله للنجاة يوم لقاء الله تعالى.

لذا كانت مهمّة العناية بالنّفس وتزكيتها محطّ اهتمام النبي- صلّى الله عليه وسلّم-، فكان رغم قدره وقربه من الله- تبارك وتعالى- يدعوه بتطهير نفسه؛ فيقول: "اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها”،(مسلم)

مفهوم تزكية النفس

التزكية في اللغة مصدر للفعل زكَّى ويقصد به التطهير أو الزيادة والنماء، يُقال زكيت هذا الثوب أي طهرته، ومنه الزكاء أي الطهارة.

وفي الشرع، فإن مفهوم تزكية النفس يعني تطهيرها وتحسينها وإصلاحها، ويكون هذا التطهير والإصلاح بالعمل الصالح، وبالتزام أوامر الله تعالى والابتعاد عن كلِّ ما نهى عنه.

ويشتمل معناها على تطهير النفس من الأدران والأوساخ، حيث يقول صاحب الظلال: التزكي التطهر من كل رجس ودنس، وتنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة.

وشدد الشيخ محمد الغزالي على الربط بين تزكية النفس ووحدة المجتمع فقال: التزكية هي التربية، وكل أمة لا تربى لا خير فيها.

حاجتنا لتزكية النَّفْس

إعادة تربية وتزكية وبناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، والحاجة إلى ذلك أصبحت أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء، بسبب كثرة الفتن وشيوع الشهوات، ومحاربة المربين والعلماء، ولأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو عن بناء غيره أعجز.

قال الله- عز وجل- عن أهمية تطهر النفس والتحذير من إهمال ذلك: {بلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49] فالواجب على كل مسلم حتى تزكو نفسه أن يستسلم لشرع الله- عز وجل-، بعد أن يمتلأ قلبه بالتوحيد، وأن يكون بين يدي الشارع كالطفل الوليد بين يدي أبويه.

وقد أشار أبو حامد الغزالي- رحمه الله- إلى ذلك بقوله: “جوهر عملية التزكية: الارتقاء بالنفس درجة درجة، من السيئ إلى الحسن ثم ترقيها في مراتب الحسن والصفاء حتى تبلغ أعلى المستويات الإنسانية وأسماها، فتتحول من نفس أمارة بالسوء أو لوامة إلى نفس مطمئنة راضية عن ذاتها مرضية عند مولاها وربها”.

وها هو ابن قيم الجوزية يربي نفسه بقانون التخلية والتحلية، فيقول: “وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني تارة، فخلوت يومًا بنفسي فقلت لها: ويحك اسمعي أحدثك إن جمعت شيئًا من وجه فيه شبهة، أفأنت على يقين من إنفاقه؟ قالت: لا.. قلت لها: فالمحنة عند الموت أن يحظى به غيرك ولا تنالين إلا الكدر العاجل والوزر، ويحك اتركي هذا الذي يمنع الورع لأجل الله، أَوَمَا سمعت أن من ترك شيئا لله عوضه الله خير منه”. 

وقال: وجدت رأي نفسي في العلم حسنا إلا أني وجدتها واقفةً مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها: فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين الحذر؟ أَوَمَا سمعت بأخبار الصالحين في تعبدهم واجتهادهم.. أَوَمَا كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- سيد المرسلين ثم قام حتى تورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر- رضي الله عنه- شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر- رضي الله عنه- خطان من آثار الدموع؟ .

ويهتم ابن القيم بالتربية الروحية للإنسان، فيرى أنها تجعله يقظا بشكل شبه دائم، فتتحول بذلك عاداته إلى عبادات ثم إلى حسنات في ميزان الله- عز وجل-، بخلاف الغافل الذي ربما تتحول عباداته لعادات فلا ينال منها شيء، حيث ذكر بعض أهل العلم “أن عبادات أهل الغفلة عادات وعادات أهل اليقظة عبادات”.

ولقد اعتنى ابن القيم بالإنسان عناية خاصة في العمل على تربيته على حياة قلبه وتزكيته فقال: “فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله فهو الصادق المصيب.

إن تزكية النفس منجية للعبد من فتن الدنيا ومهالكها وموردة له في الآخرة إلى دار القرار اللهم اجعلنا ممن " قدأفلح من زكاها " .

وللحديث عن التزكية بقية