سادساً : التواضع وخفض الجناح

ومن أهم وأبرز الصفات التي تجعل الداعية محبوباً في قومه وبيئته ذا أثر فيهم وقوامة عليهم صفة التواضع وخفض الجناح ..

فالكبر يشكل جداراً وحاجزاً بين الداعية والناس.. بل يجعل الداعية معزولاً عن مجتمعه غير مألوف ممن حوله، وإلى هذا المعنى يشير الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله ((إن أحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إليّ: المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرآء العيب )).

ومظاهر الكبر قد تبدو في صور مختلفة :

- فقد تبدو في عدم مخالطة الداعية للفقراء أو لعوام الناس وفي حرصه على مخالطة الأغنياء وأصحاب الجاه والسلطان ..

-  وقد تبدو في زيادة اهتمامه بلباسه وتأنقه وفي إعابة التبذل فيمن حوله ..

-  وقد تبدو في استنكافه عن القيام بواجب الدعوة (وعظاً وتوجيهاً وتدريساً ) في عوام من الناس أو قلة قليلة منهم؛ فهو لا يتحدث إلا إذا كان الجمهور كبيراً ووسطه رفيعاً!

-  وقد تبدو من خلال تنميق الكلام وتزويق العبارة والمبالغة في ذلك إلى حد يضع المعاني ويبطل الأثر، وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:(( إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة )) .

- وقد تبدو في الإعجاب بالعلم والزهو بالمعرفة والتحدث عن النفس بعجب، وفي الحرص على منافسة العلماء ومماراة السفهاء، وهي أخلاق مرذولة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وحذر منها فقال: ((لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا تماروا به السفهاء، ولا تحيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار )).

وقال: (( إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم منى يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون )) الترمذى .

إن الداعية المتواضع هو الذي يعيش مع كل الناس، ويستقبل كل الناس، ويكلم كل الناس، ويزور كل الناس، ويحب كل الناس ..

وهو الذي يخدم الناس ولا يستخدمهم .. ويتواصل مع الناس، لا يقاطعهم، أو يجافيهم ..

ألا فليسمع الدعاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليقتدوا بتواضعه، وهو سيد ولد آدم وأكرم إنسان؛ فمن أقواله صلى الله عليه وسلم :

-  (( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر )).

- (( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد )).

-  (( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم )).

ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم :

-  عن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله .

- وعنه قال: ((إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت )).

-  وعن الأسود بن يزيد قال: سئلت عائشة رضى الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله (يعني في خدمتهم ) فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة )).

-  وعن أبى رفاعة تميم بن أسد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدرى ما دينه فأقبل عليّ رسول الله وترك خطبته حتى انتهي إليّ فأتى بكرسي فقعد عليه وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها)).

-  وأخرج الطبرانى عن أبى أمامة أنه قال: ((كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن .. يكثر الذكر .. ويكثر الخطبة .. ويطيل الصلاة .. ولا يأنف ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف حتى يفرغ من حاجته )).

-  وأخرج البيهقى عن أبى موسى أنه قال: ((كان الرجل من العوالي ليدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الليل على خبز الشعير فيجيب )).

-  وأخرج الطبرانى عن أبى أمامة قال: ((كانت امرأة ترافث الرجال، وكانت بذيئة فمرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل ثريداً على طربال (البناء المرتفع) فقالت: انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد، ويأكل كما يأكل العبد .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي عبد أعبد مني؟ قالت : يأكل ولا يطعمني . قال فكلى؟ قالت: ناولني بيدك .. فناولها .. فقالت أطعمني مما في فيك .. فأعطاها فأكلت فغلبها الحياء فلم ترافث أحداً حتى ماتت)).

وفيما يلي طائفة مما روي عن تواضع الصحابة رضي الله عنهم :

-  أخرج ابن عساكر عن أسلم قال : قدم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الشام على بعير فجعلوا يحدثون بينهم . فقال عمر : تطمح أبصارهم إلى مراكب من لا خلاق لهم )).

-  وأخرج الدينورى عن الحسن قال: خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه في يوم حار واضعاً رداء على رأسه فمر به غلام على حمار فقال: يا غلام احملني معك .. فوثب الغلام عن الحمار وقال: اركب يا أمير المؤمنين قال : لا اركب وأركب أنا خلفك تريد أن تحملني على المكان الوطىء وتركب أنت على الوضع الخشن فركب خلف الغلام فدخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه )).

-  وأخرج ابن سعد وأحمد وابن عساكر عن عبد الله الرومي قال: كان عثمان رضي الله عنه يلي وضوء الليل بنفسه فقيل: لو أمرت بعض الخدم فكفوك؛ فقال: لا إن الليل لهم يستريحون فيه )) .

-  وأخرج سعد عن ثابت قال: (( كان سلمان رضي الله عنه أميراً على المدائن، فجاء رجل من أهل الشام من بني (تيم الله ) معه حمل تين فقال لسلمان: تعال احمل (وهو لا يعرفه ) فحمل سلمان .. فرآه الناس فقالوا : هذا الأمير .. قال لم أعرفك ... فقال له سلمان: لا حتى أبلغ منزلك )).

-  وأخرج العسكري عن عليّ رضي الله عنه قال: ثلاث هن رأس التواضع : 1- أن يبدأ بالسلام من لقيه  2- ويرضى بالدون من شرف المجلس  3- ويكره الرياء والسمعة )).

منقول بتصرف من كتاب "الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية " للدكتور فتحي يكن رحمه الله .