ممدوح الولي

تسبب الخروج الكبير للأجانب من أدوات الدين الحكومي المصري فى أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي قدرته مصادر غير رسمية بنحو 15 مليار دولار، في وقت كانت فيه البنوك التجارية المصرية تعاني من عجز مستمر بالعملات الأجنبية، منذ شهر يوليو الماضي وحتى شباط /فبراير، الأمر الذي دفع السلطات النقدية إلى خفض سعر صرف الجنيه المصري.

ورفع سعر الفائدة كمقدمة لإرتفاعات تالية، وطرح سندات خارجية كمقدمة لأطروحات أخرى، والحصول على وديعة مساندة من السعودية، ورفع رسوم المرور بقناة السويس، وخفض استهلاك محطات الكهرباء الحكومية للغاز الطبيعى لتوفيره للتصدير، ورغم ذلك فقد انخفضت الإحتياطيات من النقد الأجنبي داخل البنك المركزي بحوالي 4 مليار دولار خلال شهر (مارس) الماضي.

مما دفع إلى التوجه لصندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، والطلب لدى بنوك إقليمية ودول للحصول على قروض أخرى، والتوسع في بيع أصول حكومية لمستثمرين خليجيين سواء من الإمارات أو السعودية أو قطر، وبيع أراضي ووحدات سكنية بل وأراضي لإنشاء مقابر عليها للمصريين للخارج للحصول على المزيد من الدولارات.

وكانت مصر قد توسعت في الاعتماد على الأموال الساخنة لجلب دولارات للسوق المصرية، رغم التكلفة الباهظة لذلك بسبب الفائدة العالية على أدوات جذبها، خلال فترتي فاروق العقدة وطارق عامر محافظي البنك المركزي المصري، حيث طالت مدة الأول لمدة تسع سنوات ما بين عامى 2003 و2013، وأكثر من ست سنوات للثاني حتى الآن والذي مازال يشغل المنصب منذ عام 2015.

خروج عنيف 5 مرات أحدها لست سنوات

وخلال تلك الفترة ومن خلال بيانات مشتريات الأجانب لأذون الخزانة المصرية، كأحد أدوات الدين الحكومى الى جانب سندات الخزانة، ونظرا لعدم نشر الجهات الرسمية شيئا عن مشتريات الأجانب لسندات الخزانة، فقد شهدت السنوات الستة عشر الممتدة من 2006 وحتى العام الحالي، خمس مرات لخروج الأجانب بشكل عنيف من مشترياتهم لأذون الخزانة، بخلاف خمس مرات أخرى لخروج ولكن أقل حدة.

وتسعى الأموال الساخنة للبحث عن فرص ربح أعلى بالأسواق الناشئة، سواء من خلال وجود أسعار فائدة مرتفعة، أو فرص ربح بالبورصات الناشئة، بصرف النظر عن المخاطر بتلك البلدان، حيث تحدد لنفسها نسبة الربح التي تتناسب مع تلك المخاطر، فإذا زادت درجة المخاطر سواء سياسية أو اجتماعية، أو تراجعت الفائدة عن النسبة التي حددتها لربحها، سارعت تلك الأموال الساخنة للخروج سريعا متجهة إلى أسواقا أخرى تحقق لها نسب الربع العالية.

ولذلك أسماها أستاذ الإدارة المالية الراحل الدكتور منير هندي العصفور الطائر، أي العصفور الذي لا يلبث أن يقف على غصن شجرة يقتات منها لفترة قصيرة، ثم يتركه إلى شجرة أخرى لتكرار تحقيق نفس المسعى، وهكذا أتت تلك الأموال الساخنة لمصر لتستفيد من نسب الفائدة المرتفعة على أدوات الدين الحكومى المصري، لكنها مع الأزمة المالية العالمية سارعت بالخروج خلال عامي 2008 و2009.

 وفي أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، خرجت من مصر واستمرت خارجها حتى أواخر عام 2016 لمدة ست سنوات متواصلة لتعود بعد تعويم الجنيه أواخر عام 2016، وفي عام 2018 ومع الحرب التجارية الأمريكية الصينية وانخفاض الفائدة بمصر خرجت لمدة ثمانية أشهر، وفي أعقاب ظهور فيروس كورونا كررت الخروج، وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا كررت الخروج.

فوائد سنوية تتخطى 11 مليار دولار                          

أما الخروجات الخمس الأخرى الأقل حدة فكانت خلال عام 2006 لمدة شهرين، وخلال عام 2007 لمدة ثلاثة أشهر، وعام 2010 خلال شهر أيار / مايو ثم خلال الشهور الثلاثة الأخيرة من العام بعد الإنتخابات البرلمانية التي استحوذ الحزب الحاكم على ما يشبه كامل المقاعد، وفي عام 2019 خلال شهرين مواكبة للمظاهرات التي جرت خلال سبتمبر، في عام 2021 خلال أربعة شهور متفرقة خاصة مع إعلان الفيدرالي الأمريكي عزمه على رفع الفائدة.

وفى كل مرة يؤثر خروجها على سعر صرف الجنيه المصري وعلى الاحتياطيات من العملات الأجنبية، حسب درجة شدة الخروج، كما  يقل المعروض من العملات الأجنبية مما يدفع السلطات أحيانا لخفض سعر صرف الجنيه المصري، أو رفع سعر الفائدة بدرجة أكبر من أسواق أخرى ناشئة منافسة، لجذب تلك الأموال الساخنة مرة أخرى، أو المزيد من الإقتراض لتعويض نقص السيولة الدولارية المترتبة عن خروج الأموال الساخنة.

ومما يشير إلى ضخامة تكلفة الأموال الساخنة هو ارتفاع مدفوعات دخل الإستثمار بمصر من 1.7 مليار دولار خلال عام 2006، وزادت إلى 9.6 مليار دولار عام 2018، حتى بلغت 11.6 مليار دولار عام 2020، كما بلغت 11.4 مليار دولار خلال الشهور التسعة الأولى من العام الماضى كآخر بيانات منشورة، أى أنها مرشحة لبلوغ حوالى 15 مليار دولار بالعام الماضى شاملة فوائد القروض الأجنبية.

كما أثرت تلك التكلفة على الموازنة المصرية، حيث أصبحت فوائد الديون الحكومية تمثل المكون الأكبر ضمن مصروفات الموازنة بنسبة 37 بالمائة من الإجمالى، وبما يؤثر على نصيب باقي أبواب مصروفات الموازنة الخمسة، خاصة الإستثمارات والدعم والأجور.

الأموال الساخنة توجه السياسة النقدية

ويمثل كبر قيمة تلك الأموال بمثابة إغراء للقائمين على السلطة النقدية، يساعدهم على التباهي باستقرار سعر الصرف، وإقبال المستثمرين الأجانب على أدوات الدين الحكومي، وتمويل الواردات الحكومية سواء الغذائية أو الوقود وحتى الأمنية.

حيث تخطى الرقم 33 مليار دولار في أغسطس الماضي، وبمقارنة ذلك الرقم بموارد النقد الأجنبي بميزان المدفوعات المصري خلال العام المالي الأخير 2020/2021 والمنتهي في يونيو الماضي، نجد أن تحويلات العاملين بالخارج قد بلغت 31 مليار دولار، وحصيلة الصادرات السلعية أقل من 29 مليار دولار، والمستخدم من القروض الخارجية حوالي 13 مليار دولار، وصافي الإستثمار الأجنبى المباشر 5.2 مليار دولار وعائدات قناة السويس 5.9 مليار دولار.

 وهو أمر يجعل هؤلاء يخاطرون بالاستمرار في جذب تلك الأموال الساخنة رغم إدراكهم لمخاطرها، حيث أنها سرعان ما تخرج لأسباب داخلية أو خارجية، ويتسبب خروجها المفاجىء في مشكلات إضافية للاقتصاد المتخم أصلا بالمتاعب.

 بل لقد أصبحت السياسة النقدية رهينة لتلك الأموال الساخنة، فالسلطات النقدية عند تحديدها لسعر الفائدة تكون أعينها متجهة أساسا لإرضاء تلك الأموال الساخنة، برفع الفائدة رغم ما يسببه ذلك من أضرار للصناعة المحلية والتصدير وعلى تنافسية تلك الصادرات مع صادرات دول أخرى تم تمويلها بفارق أقل كبير، ونفس الأمر عند تحديد سعر الصرف، حيث أصبح السعر الذي يراه هؤلاء مناسبا هو المرشد  للبنك المركزي، عند تحديد المدى الذي يتحرك به سعر الصرف الُمدار من قبل البنك المركزي.

ولحقت السياسة المالية بذلك الاهتمام، حيث كان هناك تمييز ضريبي لصالح تعاملات الأجانب بالبورصة، في محاولة لإغرائهم بعد خروجهم خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة وحتى الشهور الأولى من العام الحالي.