بقلم: د. أشرف دوابة
شهد الخامس والعشرون من شهر رمضان الماضي اقتحاماً للآلاف من جنود الكيان الصهيوني لباحات المسجد الأقصى والاعتداء على المصلين في ظل غضب الشارع الفلسطيني من حكم محكمة صهيونية بإخلاء عائلات من منازلها بحي الشيخ جراح بالقدس لصالح مستوطنين صهاينة، وأسفر هذا الاعتداء عن إصابة أكثر من 205 فلسطينيين في المسجد الأقصى وباب العمود والشيخ جراح، ثم شهد صباح يوم الإثنين 28 رمضان اقتحاماً نازياً للمسجد الأقصى، أسفر عن إصابة أكثر من 331 فلسطينياً بينهم 7 حالات خطرة.
قامت قوات الاحتلال الصهيوني بالاعتداء على الفلسطينيين بالمسجد الأقصى لتهيئة البيئة للمتطرفين من المستوطنين للقيام بمسيرة توحيد شطري القدس، وفي ظل تمادي الكيان الصهيوني في بطشه وغيّه وعجز النظام الرسمي العربي عن صده بل والتواطؤ معه من بعضهم، نشرت «كتائب القسام»، الجناح المسلح لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في الرابعة وخمس وأربعين دقيقة بياناً تقول فيه: إنّ قيادة المقاومة تُمهل «إسرائيل» حتى السادسة مساءً لسحب جنودها من الأقصى وإطلاق سراح المعتقلين، ولكن لم يكترث الاحتلال بتلك التحذيرات؛ فأُطلقت رشقة صاروخية من قطاع غزة باتجاه مدينة القدس المحتلة، فهرع المستوطنون هاربين ولم تكتمل مسيرتهم، وبعدها فتح الكيان الصهيوني جبهة حرب مع غزة، فأوغل في قتل النفوس وهدم البيوت على أصحابها، فلم يراعِ شيخاً كبيراً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة، وقد قابلت المقاومة ذلك بتطور نوعي في إطلاق الصواريخ التي غطت سماء الكيان الصهيوني وألحقت به أضراراً بشرية ومادية.
ورغم الأضرار الاقتصادية والبشرية التي أصابت قطاع غزة من قتل النفوس وتدمير المزارع وهدم عشرات البيوت وموت ساكنيها تحت أنقاضها أو تركهم في العراء كعامل ضغط اقتصادي على حركات المقاومة في غزة، حتى قدرت الخسائر المادية -وفق مكتب الإعلام الحكومي في غزة- خلال الثمانية أيام الأولى للحرب بأكثر من 344 مليون دولار، إلا أن المتضررين لم يزدهم هذا الوضع إلا ثباتاً وتضحية فداء للأقصى، وضربوا أروع الأمثلة في الصبر والرباط والتضحية بكل ما هو غال ورخيص فداء للأقصى.
كما أنه رغم تلك الخسائر، فإن خسائر الصهاينة فاقت التوقعات؛ فقد حققت صواريخ المقاومة شللاً تاماً في البلاد؛ فتم تعليق رحلات الطيران والمواصلات وإغلاق المدارس وإيقاف العمل بحقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط، وانخفضت العملة (الشيكل) بنحو 1.5% ، وتضرر أكثر من 3000 مبنى وشقة وسيارة، وزادت تكلفة فاتورة الحرب من عجز الموازنة، حتى إن الخسائر الاقتصادية خلال ثلاثة أيام للقطاع الصناعي بلغت 160 مليون دولار، وفق تصريح لرئيس الاتحاد المصنعين الصهاينة، كما بلغت تكلفة اعتراض الصاروخ الواحد للمقاومة 150 ألف دولار لصاروخ قيمته نحو 300 دولار.
وقياساً على الحروب السابقة، ففي تقديري لن تقل التكلفة اليومية للاقتصاد الصهيوني في هذه الحرب عن 300 مليون دولار؛ ما يعني أن تكاليف الحرب وأعباءها على الاقتصاد الصهيوني تبلغ نحو 7 أضعاف ما عليه الوضع في غزة، ولعل أهم نتيجة في هذه الحرب هي نهاية «صفقة القرن» وإحياء الأمة من موات بعد أن لجأ صهاينة العرب للتطبيع، بل ودعم الاقتصاد الصهيوني علانية، وصمت بعضهم صمت القبور عما يحدث من اعتداء غاشم على غزة.
الجهاد الإيجابي والسلبي
إن هذه الحرب الضروس على غزة تبرز أهمية مساندة الشعوب الإسلامية لأهلنا في غزة، في ظل غياب النظام الرسمي العربي ما بين متآمر وعاجز؛ فلا أقل من الجهاد الاقتصادي من ناحية الإيجاب بالإنفاق في سبيل الله، ومن ناحية السلب بالمقاطعة الاقتصادية لكل سلعة وخدمة صهيونية، وكل سلعة وخدمة من كل دولة ساندت الكيان الصهيوني، ولا سيما الدول الغربية التي أصبحت عارية من حقوق الإنسان التي تتغنى بها ووقفت مع القاتل ضد المقتول، ومع المحتل ضد المحتل أرضه والمباح قتله ونهب ماله ودياره.
إن الجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس في كتاب الله وهو واجب؛ لتوفير احتياجات المجاهدين، وتلبية حاجات من هُدمت بيوتهم وافترشوا الأرض والتحفوا السماء التي تلهبها غارات ونيران الصهاينة، فضلاً عن الحاجات الصحية التي باتت ملحة، وغيرها من الحاجات المعيشية الأساسية.
والنبي صلى الله عليه وسلم جعل من جهَّز غازياً كأنه غزا، وأخبر أنه من أعان مجاهداً في سبيل الله أظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ولذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «لأن أجهز صوتاً في سبيل الله أحب إلى من حجة بعد حجة الإسلام»، فكيف بتجهيز أهل الرباط ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس الذي لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم، ومن المخالفة والخذلان التخلي عنهم وعدم مساندتهم في قضيتنا وقضيتهم العادلة في تحرير مسرى ومعراج الرسول وكل فلسطين من البحر للنهر تحقيقاً لبشارة الرسول الكريم.
وليتذكر كل منا جيش «العسرة»، وكيف جهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بتسعمائة بعير ومائة فرس، حتى قال الرسول عنه: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم»، وتصدق أبو بكر الصديق رضي الله عنه بكل ماله، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، وإذا كان اليهود يعتمدون على التبرعات؛ فنحن أولى الناس بتعزيز الجهاد المالي لأهل غزة باعتباره حقاً وواجباً، ولو بتعجيل دفع الزكاة فراراً إلى الله وبعداً عن الإلقاء بالنفس إلى التهلكة بالتخلي عن إخواننا، علماً بأن ما يفعله المسلم من خير يرد إليه أضعافاً مضاعفة، فكيف إذا كان هذا الخير من أجل ذروة سنام الإسلام والذود عن ثالث الحرمين ومسرى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم؟
وليجدد كل منا نيته بالغزو ولا سيما في حالة العجز الذي نعيشه، فمن لم يحدث نفسه بذلك مات ميتة جاهلية، وقد كتب الله أجر الجهاد لأقوام بالمدينة رغم مكوثهم بها لأن نيتهم اتجهت للغزو وحبسهم العذر.
ومن المهم أن يتحول الجهاد المالي لأهل فلسطين إلى ثقافة ورفع للوعي لتكون التربية الجهادية المالية سلوكاً يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً في حياتنا، من خلال تخصيص جزء من دخلنا وأطفالنا لنصرة الأقصى ومرابطيه، كما تبدو أهمية ترسيخ الجهاد العيني كل حسب استطاعته من سلع وخدمات، فضلاً عن تجديد النية دائماً، وتفعيل كل ذلك بصورة مؤسسية من خلال الزكاة والوقف والصدقات بصفة عامة، كما أنه من المهم وضع خطة شاملة ومتكاملة ومستمرة للتمكين الاقتصادي للمتضررين والمحتاجين في غزة وكافة فلسطين بصورة تحقق لهم الكفاية وتعوضهم عما حل بهم من أضرار، تشارك فيها مؤسسات العمل الخيري على مستوى العالم الإسلامي بصورة فعالة.
سلاح المقاطعة
أما المقاطعة الاقتصادية للسلع والخدمات الصهيونية وللدول المساندة لهذا الكيان، فهي كذلك فريضة شرعية وضرورة بشرية في عالم يحركه المال، وتخضع السياسة فيه والسياسيون لضغوط المال ورجال الأعمال، والمقاطعة ليست بدعاً، فقد عرفتها الدول والمجتمعات قديماً وحديثاً، وليس ببعيد عنا استخدام الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني نفسه لها بصورة مقلوبة ظلماً وعدواناً، ولكننا نستخدمها عدلاً وإحساناً؛ حتى لا تتحول أموالنا إلى رصاصات تستقر في جسد إخواننا في فلسطين، والمقاطعة هي أضعف الإيمان، وقد ثبت جدواها إذا تمت بصورة منظمة ومستديمة، وهي من أدوات النكاية بالعدو الصهيوني، ومن عوامل الضغط على حلفائه، كما أنها ترسخ قيمة الانتماء الوطني والعروبي والإسلامي.
وختاماً، فإن ما يدور على أرض فلسطين رغم ما فيه من تضحيات، فإنه يحمل معه البشريات؛ فجيوش الدول العربية التي تقهقرت أمام هذا الكيان الغاصب حتى تحولت لحمايته، تمكنت المقاومة من فضح وتعرية هذه الجيوش فضلاً عن تعرية جيش الصهاينة وحربه النفسية وسقوط مقولته الفاسدة المغرورة بأنه «جيش لا يقهر»، فما بعد حرب غزة ليس كما قبلها في إطار التطور النوعي للمقاومة وانتقال الكلمة لها وحدها، والهروب المتوقع للمستوطنين بهجرة عكسية خارجية في ظل فقدان الأمن وظهور بوادر التفكك الداخلي وضربات المقاومة الموجعة، فضلاً عن التخلي الخارجي التدريجي عن الكيان الصهيوني.
فهذا الكيان دولة وظيفية من صنع الاستعمار قائمة على عقلية «الجيتو» ولن يستمر دعمه لها، وأفول نجمه وحتمية زواله تعيش في جيناته اللقيطة، وقد أكد هذا العديد من التقارير الدولية الأمريكية والروسية، وكذلك د. عبد الوهاب المسيري، وأفراهام بورج، رئيس الكنيست السابق، والمؤرخ الصهيوني الشهير بيني موريس، إضافة إلى الاستشفاف القرآني لتلك النهاية التي أشار إليها الشيخ أحمد ياسين.