في مثل هذا اليوم قبل 89 عاما استشهد عمر المختار على يد الاحتلال الإيطالي، ولكن دعوة المختار استمرت وانتصرت رغم من خان الأمة لحساب المحتلين، واليوم بعد كل هذه الأعوام ما زلنا نترحم على الشهيد المختار ونلعن الخونة، وهذا ما سيحصل مع الخونة الجدد في هذا القرن.
أعدمه الاحتلال الإيطالي شنقًا بجنوب بنغازي، بعد أعوام طوال كبدهم فيها المُختار خسائر لا تحصى في الأرواح والعتاد، أرادوا موته فأبقاه الله حيًّا في قلب الأمة ومصدرًا لإلهامها ولأبنائه من أحرار ليبيا والأمة العربية.
وقرر المجلس الرئاسي بحكومة الوفاق الليبية أن يكون اليوم الأربعاء عطلة يوم الشهيد، في جميع المؤسسات والهيئات العامة، وذلك في ذكرى استشهاد عمر المختار.
شيخ المجاهدين
يقول الكاتب الليبي نور الدين برحيلة: "حين أتذكر الشهيد العملاق عمر المختار "أسد الصحراء" الذي دوخ روما الحديثة.. وانحنت الجيوش الإيطالية لبسالته وشجاعته، وشخصيته الكارزمية الفولاذية، وغيرته الوطنية، التي جعلته يختار الاستشهاد لا الاستعباد.. حينها أدرك جيدا أن الأحرار يغيرون مجرى التاريخ نحو المجد والعظمة كما يفشل الخونة دائما ويسقطون في قمامة التاريخ".
وتابع: "اليوم حفتر يواصل تحالفاته مع أعداء ليبيا.. هؤلاء الذين لا يرون في الوطن الليبي إلا بقرة حلوب، ومنجم ذهب، وحقول نفط.. حفتر الذي يريد أن ينصب نفسه "المختار الجديد" لدولة ليبيا.. المختار الذي اختار أن يسلم مفاتيح ليبيا لعصابات سرقة الأوطان..".
مضيفًا: "اليوم حين أسمع بشائعات متهافتة تدعي أن الرئيس الليبي فايز السراج من أصول تركية، وعن قبيلة أتراك ليبيا التي تريد أن تؤسس من جديد الدولة العثمانية، وغيرها من الترهات، في المقابل تكيل هذه الأخبار الصفراء المديح التكسبي لحفتر وجيش حفتر مع المحاولة البئيسة لإخفاء ارتباط الاتجاه الحفتري بفرنسا الاستعمارية التي خربت ليبيا تحت مسميات محاربة الإرهاب وتحقيق الديمقراطية التي لا تعني سوى سرقة ثروات ليبيا..".
وختم بالقول: "لن أتحدث عن الكرم الإماراتي بالأسلحة والعتاد والطائرات الحربية التي لا تلقي طبعا بالغذاء والدواء والحلوى ولعب الأطفال، وهي تلقي قذائفها لتدمير ليبيا، أما السيسي الذي يعطي دروسا في الشرعية والمشروعية يكفي أن نهمس في أذنه هل من الشرعية في شيء الانقلاب على رئيس شرعي وإدخاله السجن وبقية القصة التراجيدية مؤلمة.. مثل هؤلاء عليهم أن يخجلوا كثيرا وأن يتصببوا عرقا في يوم بارد جدا.. وأولهم حفتر الذي اختار خيانة ليبيا".
ولد عمر بن مختار بن عُمر المنفي الهلالي في الـ20 من أغسطس عام 1858، واشتهر بين الجميع باسم بعمر المختار، وله العديد من الألقاب "شيخ الشهداء"، "شيخ المجاهدين"، و"أسد الصحراء"، وكان ينتمي إلى بيت فرحات من قبيلة منفة الهلالية التي تنتقل في بادية برقة.
حارب المختار، الإيطاليين وهو يبلغ من العمر 53 عامًا واستمر نضاله لأكثر من عشرين عامًا في عدد كبير من المعارك، إلى أن تم القُبض عليه من قِبل جنود الاحتلال الإيطالي، وأجريت له محاكمة صورية انتهت بإصدار حكم بإعدامه شنقًا، ونُفذت فيه العقوبة على الرغم من أنه كان شيخا كبيرا، حيث كان يبلغ في حينها 73 عامًا وعانى من الحمى.
كفله أبوه وعني بتربيته تربيةً إسلاميَّة حميدة مستمدة من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على القرآن والسنة النبوية ولم يعايش عمر المختار والده طويلًا، إذ توفي والده وهو في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد إلى شقيقه بتربية ولديه عمر ومحمد وبعد عودة، فوافق من غير تردد، وتولّى رعايتهما محققًا رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم.
لفت انتباه شيوخه في صباه، فهو اليتيم اليافع، الذي شجّع القرآن الناس وحثهم على العطف على أمثاله كي تُخفف عنهم مرارة العيش، كما أظهر ذكاءً واضحًا، مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربين، اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعًا، وأصبح على إلمام واسع بشؤون البيئة التي تحيط به وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها.
خلال السنوات التي قضاها عمر المختار في الجغبوب حيث كان يكمل دراسته، تمكَّن من اكتساب سمعةٍ حسنةٍ وقوية عند شيوخ الحركة السنوسية وقد بلغت تلك السمعة من القوة أن قرَّر محمد المهدي السنوسي، ثاني زعماء السنوسية، أخذ عمر المختار معه سنة 1895 برحلته من الجغبوب إلى الكفرة في جنوب شرق الصحراء الليبية، وبعد هذه الرحلة اصطحبه مرة أخرى في رحلة من الكفرة إلى منطقة قرو في غرب السودان، فاصطحب معه عمر المختار، وعيَّنه هناك شيخًا لزاوية عين كلك.
عيَّنه المهدي السنوسي في سنة 1897 شيخًا لبلدة تسمى زاوية القصور تقع بمنطقة الجبل الأخضر شمال شرق برقة، والتي تقع قريبًا من مدينة المرج، وأحسن عمر المختار الأداء في هذا المنصب، رغم أن البلدة التي كُلِّف بإدارتها كانت تقطنها قبيلة العبيد التي اشتهرت بشدة البأس وصعوبة الانقياد وقد أدَّت علاقته الوثيقة بالسنوسيين إلى اكتسابه لقب سيدي عمر الذي لم يكن يحظى به إلا شيوخ السنوسية المعروفين.
عندما بدأ الاستعمار الفرنسي لتشاد في عام 1900 ناصب الفرنسيون الحركة السنوسية العداء وأخذوا يحاربونها، فجيَّشت الحركة نفسها ضد الفرنسيين بدورها، وكان عمر المختار ممَّن اختيروا لقيادة كتائب الحركة ضدَّهم، وقد شارك خلال ذلك بالدعوة في تشاد وخلال قتاله هناك، أصيبت إبل المقاتلين الأربعة آلاف بداء الجرب، ووكل هو بعلاجهم، فأمر بأخذهم إلى عين كلك لأن ماءها جيد، فتعافت الإبل.
في عام 1911 أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية، وبدأت إنزال قوَّاتها بمدينة بنغازي الساحلية شمال برقة في 19 أكتوبر وفي تلك الأثناء كان عمر المختار في مدينة الكفرة بقلب الصَّحراء في زيارة إلى السنوسيين، وعندما كان عائدًا من هناك مرَّ بطريقه بواحة جالو وعلم وهو فيها بخبر نزول الإيطاليين، فعاد مسرعًا إلى زاوية القصور لتجنيد أهلها من قبيلة العبيد لمقاومة الإيطاليّين، ونجح بجمع 1,000 مقاتل معه وأول الأمر أسَّس عمر المختار معسكرًا خاصًا له في منطقة الخروبة، ثم انتقل منها إلى الرجمة حيث التحق هو والمقاولون الذين معه بالجيش العثماني.
حروب الصحراء
وجد عمر المُختار نفسه قد تحوَّل من مُعلّم للقرآن إلى مُجاهد يُقاتل في سبيل دينه وبلاده لدفع الاحتلال عنها وكان قد اكتسب خبرة كبيرة في أساليب وتكتيكات الحروب الصحراويَّة أثناء قتاله الفرنسيين في تشاد، وكان له معرفة سابقة بجغرافيَّة الصحراء وبدروبها ومسالكها وكل ما يتعلَّق بها، فاستغل هذه المعرفة وتلك الخبرة ليحصل على الأفضليَّة دومًا عند مجابهته الجنود الإيطاليون غير العارفين بحروب الصحراء وغير المعتادين على قيظها وجفافها، أخذ المختار يقود رجاله في حملاتٍ سريعة على الكتائب العسكرية الإيطاليَّة، فيضربوهم ضرباتٍ موجعة ثمَّ ينسحبون بسرعة إلى قلب الصحراء وعمل المجاهدون الليبيّون على مهاجمة الثكنات العسكريَّة الواقعة على أطراف الصحراء.
وفي شهر أكتوبر سنة 1930 تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثروا عقب انتهائها على نظّارات عمر المختار، كما عثروا على جواده في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار ما زال على قيد الحياة، وأصدر غراتسياني منشورًا ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على "أسطورة المختار الذي لا يقهر أبدًا" وقال متوعدًا: لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغدًا نأتي برأسه".
وتوجه المختار في 11 سبتمبر من عام 1931، بصحبة عدد صغير من رفاقه، لزيارة ضريح الصحابي رويفع بن ثابت بمدينة البيضاء وكان أن شاهدتهم وحدة استطلاع إيطالية، وأبلغت حامية قرية السلنطة التي أبرقت إلى قيادة الجبل باللاسلكي، فحركت فصائل من الليبيين والإرتيريين لمطاردتهم وإثر اشتباك في أحد الوديان قرب عين اللفو، جرح حصان عمر المختار فسقط إلى الأرض وتعرف عليه في الحال أحد الجنود المرتزقة الليبيين.
وتم القبض على عمر المختار في عملية تطويق بوادي بوطاقة جنوب البيضاء وتمَّ استدعاء أحد القادة الطليان، وهو متصرف الجبل الأخضر دودياشي الذي سبق أن فاوض عُمر المختار للتثبت من هوية الأسير. وبعد أن التُقطت الصور مع الأسير، نُقل عمر المختار إلى مبنى بلدية سوسة، ومن هناك على ظهر طرَّاد بحري إلى سجن بنغازي مُكبّلًا بالسلاسل.
وفي الساعة الخامسة مساءً في 15 سبتمبر 1931 جرت محاكمة عمر المختار التي أعد لها الطليان مكان بناء برلمان برقة القديم، وكانت محاكمة صورية شكلًا وموضوعًا، إذ كان الطليان قد أعدوا المشنقة وانتهوا من ترتيبات الإعدام قبل بدء المحاكمة وصدور الحكم على المختار، وفي صباح اليوم التالي للمحاكمة، أي الأربعاء في 16 سبتمبر 1931، اتُخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، وأُحضر 20 ألف من الأهالي وجميع المُعتقلين السياسيين خصيصًا من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم.
وأُحضر المختار مكبل الأيادي وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا سلم إلى الجلّاد، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوّي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذا تحدث إليهم أو قال كلامًا يسمعونه، لكنه لم ينبس بكلمة، وسار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين.
المقاومة
حاولت إيطاليا الاستفادة من مقتل عمر المختار، فعملت على استمالة المجاهدين إليها وإقناعهم أن المقاومة لا فائدة تُرجى منها بعد أن سقط الرأس المُدبّر، لكن المجاهدين أبوا واجتمعوا وانتخبوا الشيخ يوسف بورحيل المسماري قائدًا للجهاد الإسلامي ووكيلًا عامًا للجهاد. وعلى أثر هذا التنصيب كلَّف الشيخ عبد الحميد العبَّار بالرحيل نحو شرق البلاد للقيام بحث الناس على الانخراط في جيش المجاهدين وحمل السلاح لمكافحة الجيوش والجهاد في سبيل العقيدة الإسلامية والدين.
وكان الهدف من إعدام "شيخ المجاهدين" إضعاف الروح المعنوية للمقاومين الليبيين والقضاء على الحركات المناهضة للحكم الإيطالي، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه سفن الإيطاليين، فالنتيجة كانت عكسية، مع ارتفاع وتيرة الحركات الثورية، الأمر الذي انتهى بأن طُرد الإيطاليون من البلاد شر طردة.
حصد "أسد الصحراء" إعجاب وتعاطف الكثيرين أثناء حياته، وأشخاص أكثر بعد إعدامه، فبطولات الشيخ الطاعن في السن الذي يواجه المحتل بكل شراسة في سبيل بلاده ودينه، حصلت على انتباه الكثير من المسلمين والعرب الذين كانوا يعانون من الاستعمار الأوروبي في حينها، وحثت المقاومين على التحرك، وبعد وفاته حصدت صورته وهو معلّق على حبل المشنقة تعاطف أشخاص أكثر، من كل أنحاء العالم على حد سواء، فتعاظمت صورته في أذهان الناس وأصبح بطلًا شهيدًا.