توالت الاعتداءات أخيرًا على المسلمين فى كل قطر من أقطار الأرض، وكشر أعداؤهم عن ناب البغضاء، وآذنوهم بحرب بعيدة المدى، وصرحوا بنيّاتهم، وكشفوا عن مخبآت ضمائرهم، وأعلنوا على رءوس الأشهاد أنهم يريدون أن يكون الدين كله لهم والحكم بيدهم، وتزول من الوجود تلك البقية من المسلمين فى كثير من أنحاء الأرض، وكلها بشدة وبلهجة قاسية وبحروف من نار، ولكن لمن نحتج؟

نحتج لأمة تجدّ فى تنصير إخوان لنا، وتعتدى عليهم كل يوم عدوانًا جديدًا فى دينهم وحريتهم وأموالهم وأولادهم، ومن تكلم أذاقته الهون وسوء العذاب؟

أم لأمة تزاحم إخوانًا لنا على معايشهم فى أوطانهم، وتقيم خطتها على طرد ذوى الأملاك إلى الصحراء والاستحواذ على أملاكهم بالقوة الجبرية حتى مات معظمهم جوعًا وعطشًا؟

أم لأمة أصبحت دسائسها ومكائدها فى البلاد الإسلامية تفوق الحصر، وأنها لتعمل فى طى الخفاء أفظع مما يتظاهر غيرها بعمله؟

أم لعصبة الأمم، وليست عصبة الأمم إلا ما نعلم؟

لقد أسمعت لو ناديت حيًا

            ولكن لا حياة لمن تنادى

أيها المسلمون، عبثًا تحاولون أن يكون الخصم هو الحكم، وأن تجدوا النصفة من أعدائكم.

عبثًا تنتظرون الرحمة من قلوب هؤلاء، فقد جمدت حتى صارت كالحجارة أو أشدُّ قسوة، وأظلمت حتى أصبحت أحلك من سواد الليل، وانطمست حتى لا ترى بصيصًا من نور الحق.

عبثًا تريدون أن تسمعوا كلمة عطف من فريق منهم، فقد اجتمع الجميع عليكم، واتفقت كلمتهم فى وسائل إرهابكم، وإنهم وإن تفرقوا فى مطامعهم واختلفوا فى منازعهم فهناك سبيل واحد اتفقوا عليه وتقاسموا لينفذنّه، وهو القضاء على الإسلام والمسلمين.

وهى إحن صليبية وسياسة رجعية تدفعهم إلى أعمال هى إلى الوحشية والجنون أقرب.

لا تخدعوا أنفسكم -أيها المسلمون- وحسبكم غفلة وحسن ظن الأيام، فقد وصف الله لكم القوم فى كتابه، فقال تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا﴾[البقرة: 217]، وقال لنبيه ما هو أصرح من ذلك، وهم لا يرضيهم منكم إلا الردة وإلا الاستعباد، وبعد كل هذا لهم معكم حقد قديم ينتقمون منكم به ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنْكَ﴾[الحشر: 16].

هذه حقيقة ما هو واقع، وقد صرحوا به بالقول مرات، وأكدوه بالفعل، وتواترت عليكم به الأنبياء. صدقونى يا إخوانى، لقد ذاب قلبى أسفًا، وتقطعت نفسى حسرات مما يتوالى من النكبات على المسلمين، وأردت أن أحتج فسألت نفسى: لمن؟

فأخذت أقلب الفكر، وأستعرض الأمم البعيدة فلم أجد فيها رحيمًا، والقريبة فإذا هى مكبلة بقيود ثقيلة لا تستطيع معها حراكًا، وذكرت كلمة كانت عنوانًا لمقال كتبه الأمير الجليل "شكيب": "يظهر أن هذا اليوم كله علينا وليس لنا منه شىء"، فأخذ ذلك من نفسى كل مأخذ، ولولا بقية من الأمل فى أن يتدارك المسلمون أمرهم ويجمعوا شملهم لكان الموت أولى من حياة الذلة والمهانة.

ذل من يغبط الذليل بعيش

            ربّ عيش أخف منه الحمام

أنا لا أقصد لوم من يحتج، فلو لم يكن فى الاحتجاج إلا أنه عاطفة شريفة، وغيرة إنسانية، وشعور دينى يصل نفوس المسلمين بعضها ببعض ويشد أزرهم، لكان صاحبه يستحق التكرمة والثناء.

ولكن الذى أريد أن أصل إليه أن يعتقد المسلمون أن الاحتجاج وحده لا يكفى، بل لا يجدى، وأن الاحتجاج لا يرفع التبعة، ولا يعد صاحبه قد أدى واجبه، ولا يصح الاعتماد على الاحتجاجات وحدها، فقد تعوّدنا أن نهبّ ونحتج، وبعد إرسال الاحتجاج نتناسى كل شىء كأن لم يكن، ويشعر أحدنا براحة الضمير لأنه احتج، ثم تأتى الحادثة الثانية، فيكون موقفنا منها موقف الأولى، وهكذا تتوالى الحوادث كل واحدة أفظع من أختها ونقابل الجميع بالاحتجاج، هناك وسائل نستطيعها أجدى من الاحتجاج وأبلغ أثرًا وهى السبيل إلى الخلاص.

الوسيلة الأولى

ضم الصفوف وتوحيد القوى والتعارف حتى يكون المسلمون الغيورون فى كل قطر سلسلة متصلة الحلقات، يتحرك أحد طرفيها بحركة الطرف الآخر، ثم توصل هذه السلاسل فى كل الأقطار الإسلامية تحت رعاية مؤتمر عام مؤلف من مندوبين لكل قطر إسلامى، فيكون هذا المؤتمر بمثابة رياسة عامة للمسلمين تنهض بهم للدفاع عن حقوقهم الإسلامية المشتركة، وترسم لهم سبيل العمل لهذا الدفاع، وبذلك يكون للمسلمين صوت مسموع وجامعة ترهب أعداءهم وتجمع كلمتهم. أما وسائل ذلك فكثيرة وهى سهلة يسيرة إذا انتدب لها قوم من أهل الغيرة على دين الله ونشطوا فى سبيلها.

الوسيلة الثانية

مقاطعة كل ما هو غير شرقى فى العادات والتقاليد والبضائع، والاعتزاز بالعصبية الشرقية الإسلامية، والتظاهر بهذه العصبية حتى يشعر أعداء المسلمين بأن للمسلمين كرامة يجب أن تحفظ وقومية يجب أن تصان.

واذكروا -أيها المسلمون- أنكم أنتم الذين جرّأتم أوروبا وغير أوروبا على احتقار دينكم، وأنكم أنتم الذين فتحتم لها باب العدوان عليكم، فإنها ما مست دينكم بالسوء إلا بعد أن رأت تبرمكم به، وانشغالكم عنه، ودعايتكم لعاداتها ومظاهر حياتها، وفرنسا لو لم تر تعطيل الأحكام الشرعية فى كثير من الأقطار الإسلامية ما عطلتها فى ظهير البربر، وقس على ذلك.

وقد سمعنا ورأينا أثر ذلك التهاون منا فى ديننا فى خطابات مؤتمر المبشرين، وكيف أنهم يعدون ضعف العصبية الإسلامية من أهم الوسائل التى يعتمدون عليها فى القضاء على الإسلام واتساع دائرة الحركة التبشيرية.

إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها

            هوانًا بها كانت على الناس أهونا

فاذكروا دائمًا أن أول جان على الإسلام هم أبناؤه الأغرار المفتونون الذين تركوا مظاهره ونددوا بها، وأوروبا ترقبهم عن كثب وتمدهم فى طغيانهم وتشجعهم عليه بأساليب خفية. فقاتل الله اللادينيين من أبناء الأمم الإسلامية الذين أذلوا الإسلام وأسقطوا هيبته بما انتهكوا من حرمة الخلافة، وبما أقدموا عليه من انتهاك محارم الله، فذكّروا أنفسكم -أيها الإخوان- دائمًا بأن ملاحدة المسلمين فى مقدمة خصومكم، وأن على رءوسهم قسطًا كبيرًا من تبعة ما يقع الآن فى مختلف بلاد الإسلام، "ومن دعا إلى ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا".

ومن الواجب أن نحول دون تفشى أفكارهم الموبوءة بيننا، وأن نضرب على يد من يريد أن نحسن الظن بأعدائنا، ومن يخدّر أعصابنا بنظريات مزيفة وألفاظ خلابة ليس تحتها إلا فساد القومية الشرقية وضياع الوحدة الإسلامية، فلا فرق بين هؤلاء وبين الأوروبيين، ومن تولى قومًا فهو منهم كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[المائدة: 51].

فقاطعوا كل ما هو إلحادى كما تقاطعون كل ما هو غير شرقى فهما بمنزلة سواء.

أليس من التناقض العجيب أن نرفع عقائرنا بالمطالبة بالخلاص من أوروبا ونحتج أشد الاحتجاج على أعمالها ومنكراتها، ثم نحن من ناحية أخرى نقدس تقاليدها ونتعود عاداتها ونفضل بضائعها.

الوسيلة الثالثة:

أن نجاهد أنفسنا قليلاً ونحكمها ونردها إلى العقل والتبصر ونفهمها أن لذة العزّة وهناءة الضمير وحياة الحرية أهنأ وأسعد من كل شىء ولا تعدلها لذة أخرى فى الوجود، وأن هذه اللذائذ المادية والشهوات الجسمية فانية منقضية، حتى يمكننا بذلك أن نتخلص من الإغراق فى ترف الحياة.

فإن أوروبا لم تضحك علينا إلا بأدوات الزينة والتخنث وآلات اللهو ووسائل الشهوات، وشغلتنا بذلك عن مهام الأمور وجلائل الأعمال. فها نحن لم نبرع فى المخترعات كما برعنا فى الرقص والتمثيل، ولم ننبغ فى العلوم والمعارف نبوغنا فى التهتك والخلاعة.

فإذا أقنعنا أنفسنا بخطأ هذه الأفكار وأمكننا أن نتحرر من رق الشهوة تبع ذلك تحررنا من رق المصالح الأوروبية ومن رق أوروبا تبعًا لذلك، وتوفر علينا ما ندفعه لشيكوريل والبون مارشيه وسلامندر وغيرهم من أموال طائلة هى عدة الجهاد لنيل الحقوق فى هذه الأيام.

الوسيلة الرابعة:

أن نذكر هذه النكبات دائمًا، وأن نتلوها على أنفسنا صباحًا ومساءً، وأن نلقنها أبناءنا ونساءنا وإخواننا، وأن ننشرها بين أصدقائنا وفى مجالسنا، حتى ينشأ شبابنا وهم على بينة من أمر أعدائهم، فلا يخدعون كما خدعنا ولا يلاقون ما لاقينا.

وهنا أقترح أن ننظر فى أجدى الوسائل لتخريج أبنائنا مشبعين بالروح الدينية، فإن نظم التعليم عندنا -والأسف ملء القلب- لا تسمح بذلك، وهى تقربنا من الأفكار الأوروبية، وتقتل فى نفوس الناشئة كل شعور إسلامى أو قومى شريف، فأحرى بالمسلمين الذين يحبون الإسلام ويريدون أن يشب أبناؤهم على مبادئه أن يعنوا بالأمر ويفكروا فى أقرب الوسائل لذلك، وأمامهم السبل كثيرة ليس هنا موضع تفصيلها وإذا صدق العزم وضح السبيل.

وأعود فأقول: إن كثيرًا من شبابنا والطبقات الراقية عندنا ماتت فى نفوسهم الغيرة الإسلامية، فهم لا يهتمون بغير أنفسهم وشهواتهم ومرتباتهم، ولا يفكرون فى إخوانهم ولا يقدرون هذه الأخوة الإسلامية، فانشروا فيهم نبأ هذه النكبات وذكروهم بقول رسول الله فى الأثر المروى عنه: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" (أخرجه الطبرانى فى الأوسط) لعل دم العزة يجرى فى عروقهم، ولا تيأسوا من إقناعهم فقد سمعنا أن محمود عزمى وهو المتجاهر بالإلحاد والتفرنج صار بعد أن رأى استبداد فرنسا فى المغرب يقول: إن للمغاربة الحق فى التعصب للإسلام، فإذا صح ذلك -وقد سمعه منه مراسل "الفتح" فى باريس- كان فألا حسنًا فى رجوع بعض هذه الخراف الضالة إلى حظيرة الشرق والإسلام.

الوسيلة الخامسة

إن الله بيده الأمر كله والأرض له يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وإن الله قوى قهار لا يعجزه أن ينتزع أرضه من أيدى أقوى دولة فيستخلف فيها أضعف دولة لينظر كيف يعملون، والتاريخ كفيل بذلك وشاهد عليه: فبنو إسرائيل ورثوا الأرض التى بارك الله فيها بعد أن كانوا أذل من الذل وأقل من القلة، والعرب دانت لهم الممالك بعد أن كانوا أشد الأمم ضعفًا وتفرقًا.

وأقسم لكم أيها الإخوان لو علم الله فى المسلمين من يصلحون أن يكونوا خلفاء لله فى الأرض لأرسل على مضطهديهم عذابًا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولبعث عليهم جنودًا لم تروها، وما يعلم جنود ربك إلا هو، ولخلص الأرض من أيديهم وأورثكم إياها.

ولسنا نقصد بذلك القعود عن العمل، وإنما نريد تجديد النفوس وتطهير الأرواح وتقوية العقائد حتى تمتلئ النفوس بالأمل والإيمان، وحتى تندفع إلى العمل بقوة وثبات كما كان أصحاب رسول الله .

فمن واجبنا أن نتعرف إلى الله بما يرضيه عنا، وأن نسير مع أوامره ونواهيه، فإذا رضى عنا أعاننا بنصره وأوضح لنا سبيل الخلاص وكان معنا على أعدائنا، فأخذوا من مأمنهم، وزلزلوا فى مسكنهم، وذاقوا وبال أمرهم.

كتب معاوية إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنهما أن اكتبى إلى كتابًا توصينى فيه ولا تكثرى على فكتبت عائشة إليه: "سلام عليك. أما بعد، فإنى سمعت رسول الله يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس"، وبهذه المناسبة أذكر لحضراتكم هذا الاقتراح.

القنوت فى كل صلاة

من الأحكام الشرعية أن "القنوت سنة فى كل الصلوات بعد الركوع الأخير إذا نزلت نازلة بالمسلمين"، وبما أن المسلمين فى هذه الأيام يواجهون كل نازلة جديدة حتى تكسرت النصال على النصال فيلوح لى جواز تطبيق هذا الحكم فى كل المساجد الإسلامية، وفى كل الصلوات فيقنت الأئمة فى كل صلاة بالدعاء للمسلمين بالنصرة والخلاص وبالدعاء على أعدائهم بالضعف والهزيمة، فما رأى سادتنا العلماء فى ذلك؟

وختامًا أيها العالم الإسلامى، إذا قدرت على مجاهدة النفوس والثبات على العمل وهو مُرّ فزت بالخلاص وكان يومه قريبًا ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[الرعد: 11]، وإن لم يكن من عملك إلا الكلام والاحتجاج فاذكر أن خصومك عرفوا نفسيات الشعوب فلا يرهبون إلا القوة، ولا يفقهون إلا بلسان العمل المنتج، فوفر هذه الاحتجاجات وارض بما أنت فيه من الذلة والهوان، وهما سبيلان لا ثالث لهما.

فإما حياة تبعث الميت فى البلى

            وتنبت فى تلك الرموس رفاتى

وإما ممات لا قيامة بعده

            ممات لعمرى لم يقس بممات
----------------
المصدر: مجلة الفتح، العدد (255)، السنة السادسة، 2صفر 1350ه- 18يونيو 1931م