الحمد لله العظيم.. فلا تصل العقول إلى كنه عظمته، ولا تدرك الأفهام مبلغ جبروته، سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما اتخذ عضدًا، ولا استعان في ابتداء خلقه أحدًا، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، سيد المجاهدين وقائد الغر المحجلين، ورحمة للعالمين، ومن اتبع هداهم إلى يوم الدين.

أما بعد.. فيا عباد الله، سبقت كلمة ربكم يوم خلق خلقه أن يجعلهم طوائف بددًا، وطرائق قددًا، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك؛ ولذلك خلقهم: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)﴾ (الجن)، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ (7)﴾ (الشورى) طائع وعنيد، وشقي وسعيد ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)﴾ (هود).

وذلك ليُظهر لعباده مطلق تصرفه، وصدق وحدانيته وتفرده، بيده الأمر كله، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإن أمتكم هذه تَفرَّق بنوها، واختلف أهلها، وسلكت كل فرقة من فرقها طريقًا ارتضته لنفسها.

فكان منها فرقة استهوتهم الشياطين، وعصفت بهم ريح الشهوات، فتركوا قيادهم لأهوائهم، وانغمسوا في حمأة الرذائل، ونبذوا أمهات الفضائل، وتظرفوا بالبعد عن الأديان، وفخروا بالإباحية والزندقة وسلوك سبيل الشيطان، وقلدوا في كل مظاهر الحياة أعداء أهل الإيمان، لا دين يردعهم، ولا عقل يمنعهم، إذا حدّثت أحدهم عن الصلاة والصيام هز كتفيه ولوى عطفيه، ونفخ شيطان الغرور في وَدجيه؛ فلا يكاد يفقه قولاً ولا يأتي عملاً، أولئك الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين: ﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)﴾ (الزمر)، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)﴾ (الشعراء)، ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)﴾ (ص).

وفئة أخرى فهموا الدين على غير وجهه، لبسوه كما يلبس الفرو مقلوبًا، فحسبوه بضعة من أعمال الجوارح تُؤدى صباح مساء، أو جملة من الهيئات تعمل تارة باليد وأخرى باللسان، لا يفهمون لها معنى، ولا يصحّحون لها مبنى، وتركوا مداواة القلوب، وطب الأرواح، وتقويم الأخلاق، وتصحيح العقائد، وإنارة البصائر، وأهملوا روح الشريعة إهمالاً، وأبطلوا شرائعه الاجتماعية إبطالاً؛ فكان الإسلام عندهم عدة شرائع تتعلق بالأفراد، وكأنه ليس الإسلام الذي يضع الشرائع الاجتماعية فوق كل اعتبار آخر، وينظر إلى الفرد كعضو في جماعة له عليها حقوق ولها عنده واجبات.

أولئك علموا شيئًا وغابت عنهم أشياء، وفعلوا من الدين جزءًا وتركوا أجزاء، والإسلام وحدة لا انفصام لعراها، ولا تفكك في أحكامها؛ فهم إلى أمر الله مرجون إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وبين يديه تعالى موقوفون ليسألهم عن أداء بقية ما أوصى به إليهم.

وفرقة ثالثة أنار بصائرهم وهدى نفوسهم وأرشد عقولهم؛ فعرفوا أن الإسلام عزة وسعادة وسلطان وقوة، ونفوس أبية لا تقبل الضيم، ولا تعطي الدنية، وفكر نيّر يهدي إلى الحق، ويد عاملة تؤازر هذا الفكر، وهمة عالية من وراء ذلك تدفع بصاحبها إلى النضال والجلاد والكفاح والجهاد، وأدركوا أن دين الله أمر بمعروف، ونهي عن منكر، ونصرة للمظلوم، ومعرفة للحقوق، وإن الخمول والخمود والنوم والجمود ليس ذلك من الدين في شيء، وإنما هي رهبانية ابتدعوها، وأخبار فاسدة اخترعوها وبثوها في نفوس المسلمين؛ ليكيدوا في ظلها لهذا الدين، عرفوا كل ذلك فأدركوه فهبّوا إلى العمل، ونفضوا غبار الكسل يهيبون بالأمة، ويوقظون خامد الهمة، وينادون بالإصلاح، ويدعون إلى سبل النجاح.

أولئك أهل الإسلام وأبطال الدعوة وحماة القرآن، يُسقى بهم الغيث وتنزل الرحمة، ويستقيم بهم شأن الخلق، وهم حلقة الاتصال بين الأجيال، تستمر بجهادهم دعوة الإسلام قائمة، وكلمة الله عالية ما دامت السماوات والأرض.

أولئك هم المؤمنون حقًّا، وورثة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه صدقًا ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)﴾ (الحجرات)، ﴿لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ (النساء: من الآية 95)، أولئك من أعانهم بلسانه فهو مؤمن، ومن أعانهم بماله فهو مؤمن، ومن أعانهم بنفسه فهو مؤمن، ومن ناوأ دعوتهم أو وقف في طريقهم فهو عدو الله ورسوله ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (58)﴾ (الأحزاب).

فعليكم بهذه الفرقة الناجية من الأمة؛ فتّشوا عنها، وشدوا أزرها، وكونوا على الحق أعضادها، وانشروا في إخوانكم وأبنائكم دعوتها؛ فلكأني بها وقد أظهرها الله على أعداء دينه من الكافرين والملحدين، فإذا أهلها سادة أعزة، وإذا كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وإذا أنتم بعد ذلك أهل السبق وفئة الصدق وأنصار الحق.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)﴾ (الصف).

الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، وتركتم الجهاد.. سلط الله عليكم عدوكم، وضربكم بالذل؛ إلا أن ترجعوا إلى دينكم" (أبو داود وأحمد).

-----------
المصدر: من تراث الإمام البنا، نقلاً عن: مجلة (الإخوان المسلمين)، السنة الأولى، 20ربيع الأول 1352هـ، الموافق 13يوليو 1933م.