علم الله أننا ما سررنا بشىء سرورنا باتجاه الحكومة إلى الإصلاح الاجتماعى، وإدراكها مبلغ التدهور الذى وصلت إليه الأمة فى أخلاقها ومشاعرها، ومبلغ الضرر الذى استهدفت له فى كل شئونها الاجتماعية لهذا السبب: "وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"..

وعلم الله أننا تفاءلنا خيرا بوزارة الشئون الاجتماعية وأملنا من ورائها خطوات موفقة فى سبيل هذا الإصلاح الاجتماعى.

ونحن -كجماعة زاولت إصلاح المجتمعات فى محيطها وبحسب طاقتها ووسائلها- نعلم ونعلن دائما أن الزمن جزء من العلاج، وأن الطفرة -وبخاصة فى إصلاح النفوس وتطهير المجتمعات- فوق المحال، إن صح هذا التعبير. ولهذا ما كنا ننتظر من وزارة الشئون الاجتماعية أن تظهر ثمار جهودها يانعة دانية ما بين طرفة عين وانتباهتها فذلك أمر غير طبيعى- ومهما عرف عن على ماهر باشا من السرعة فى إنجاز الأعمال وأخذ الأمور بالحزم والتنفيذ العاجل، ومهما عرف عن الشاذلى باشا من الدربة والحنكة فى مثل هذه الشئون، فإن سنة الوجود فى كل شىء لابد أن تأخذ مجراها.

فلا عيب على وزارة الشئون الاجتماعية ولا على رئيس الحكومة إذا سارت مشروعات الإصلاح الاجتماعى سيرها الطبيعى متى روعى الحزم الواجب، والسرعة فيما لابد فيه من السرعة، والتدرج فيما لابد فيه من التدرج، وتقديم الأهم على المهم فضلا عن الكمالى البحت.

وليس الإسراع والإبطاء مهما ولا مبشرا أو محزنا بقدر الصواب أو الخطأ فى اختيار الفكرة الأساسية للإصلاح المنشود، فإن من أراد بناء بيت إنما يعنيه أولا الرسم الهندسى الذى يتفق مع رغباته وميوله: ثم الرجال الذين يقومون بالإنفاذ.

ثم يأتى بعد ذلك دور العمل نفسه، فإذا كان الرسم الهندسى صحيحا والقائمون بالإنفاذ أمناء كانت السرعة زيادة فى الخير، وكان لصاحب البيت أن يعتقد أن بيته سيتم كما يحب ويهوى.

أما إذا كان الخطأ فى الأساس فى الرسم وفى العاملين، فسواء أسرعوا أم أبطئوا فإن عملهم هذا محكوم عليه بالهدم أخيرا، وهنا يكون الإبطاء رحمة من الله؛ فإن التجربة الفاشلة إنما يكون الخير فى فشلها من قريب.

على هذا الأساس نصارح وزارة الشئون الاجتماعية ونصارح رفعة رئيس الحكومة بأن ما ظهر من خطوات وزارة الشئون إلى الآن يدل على أحد أمرين: إما أنها تعمل بغير فكرة أساسية فى الإصلاح، فهى ترتجل القول ارتجالا، وتضع البرامج كيفما اتفق.

وإما أنها قد اختارت لنفسها السير على رسم أوروبى بحت، غير ناظرة إلى تعاليم الإسلام وقواعده ونظمه وما وضع من أصول الإصلاح، ولكنها لا تريد أن تصارح الناس بهذا، فهى تسايرهم فى بعض المظاهر الإسلامية، وتستر بهذا ما تضمر من برامج منقولة عن أوروبا نقلا كاملا لا تجديد فيه.

وإذا دام هذا الحال فإن وزارة الشئون الاجتماعية سوف تسلك بالأمة طريقا شائكة. وتزاول تجربة فاشلة من الأساس.

هناك حقيقة لا يصح إغفالها أبدا، وكل مصلح يحاول أن يغفلها أو يتناساها فعمله مقضى عليه بالزوال والفناء.

تلك الحقيقة؛ هى أن هذه الأمة المصرية عريقة فى تدينها وإيمانها وقد تشربت أرواحها هذا منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، فتغلغل فى صميم مشاعرها وألبابها وعواطفها، فكل من يحاول أن ينال من هذه الناحية، أو ينحرف بالأمة عنها فهو مهزوم لا محالة.

قد يبدو فى ظاهر الأمر أن هذا الشعب قد أنساه بؤسه واختلاطه بغيره من الشعوب قدسية دينه فانصرف عن تعاليمه الظاهرة.

وقد يكون هذا صحيحا إلى حد كبير بالنسبة للأعمال، أما بالنسبة للعقيدة والمشاعر والعواطف المستعرة فى حنايا الضلوع، فإن هذا الشعب مستعد لأن يضحى بآخر قطرة من دمه فى سبيل الإسلام وتعاليم الإسلام.

وحقيقة أخرى- هى أننا لماذا نخشى الأخذ بتعاليم الإسلام؟ بل لماذا لا ندعو الأمم الحائرة إلى الاهتداء بنور هذه التعاليم؟

قد يكون القائمون بهذا الإصلاح معذورين بعض العذر بسبب ثقافتهم الأوربية وافتتانهم بها واستيلائها عليهم إلى حد كبير مع جهلهم التام بسمو التعاليم الإسلامية فى كل نواحى الإصلاح الاجتماعى، ولكن لا عذر لهم أبدا بعد أن يتضح لهم أن فى الإسلام ما يكفى ويشفى ويزيد ويضمن كل نجاح وفلاح فى كل وجوه هذا الإصلاح؛ لذلك نحن ندعوهم إلى دراسة هذه الناحية فى الإسلام دراسة عميقة غير سطحية، ونحن مستعدون إلى أن نعاونهم فى ذلك متى أرادوه، فإن لم يفعلوا فخير لهم أن يدعوا هذه المهمة لغيرهم، فإن ما يضعون من مناهج مقضى عليه بالعقم من الآن.

إنما يمتاز المصلح عن المصلح، والحكومة عن الحكومة بشىء واحد هو الجرأة فى الحق والإقدام عليه، وبهذا تفاوتت الهيئات فى الإنتاج.

فإذا كانت وزارة الشئون الاجتماعية تخشى أن يقال عنها: إنها رجعية حين تأخذ بتعاليم الإسلام فتقعد بها هذه الخشية عن الإقدام والجرأة فى الحق، فقد ألقت السلم من الآن، وستكون فى واد والأمة فى واد، ولا يحزننا شىء كهذه الخسارة المزدوجة فى الجهود والوقت والمال، وما تقضيه بعد ذلك من يأس فى النفوس وقتل للعزائم والإرادات.

قضت وزارة الشئون الاجتماعية أكثر من شهرين منذ ولدت إلى الآن، والمفروض أن القائمين بأمرها قوم ذوو خبرة فى هذه الشئون، وأنهم -على الأقل- قد درسوا كثيرا من نواحيها دراسة نظرية فلا ينقصهم إلا مزاولة التنفيذ.

وهنا نقطة هامة نحب أن نلفت إليها الأنظار؛ تلك هى أن العمل وحده والتنفيذ وحده هو خير مرشد لإصلاح ما فى الخطط الموضوعة من أخطاء، وخير للمصلح المجد أن يضع الخطة وضعا بدائيا، ثم يحاول تنفيذها بطريقة مرنة، ثم يعدلها بعد ذلك كلما رأى ما يدعو إلى التعديل على ضوء التجارب، وما يبدو له من نقائص تحتاج إلى إكمال.

قضت وزارة الشئون هذه المدة وهى مدة طويلة ولاشك، ولسنا نريد أن نقول: إن أعمار الأمم تقاس بالسنين لا بالشهور والأيام، فهذا كلام إنما يصح فى أطوار التاريخ التى هى من عمل الزمن لا من عمل الناس، ونحن لا نحاسب التاريخ الآن، ولكنا نحاسب رجالا، كل يوم من أيام حياتهم محسوب عليهم ومحسوب على الأمة معهم وهم يتقاضون أجره منها، وشهران فى حياة مصلح جرئ شىء كثير لا يستهان به أبدا، ولابد للمصلح القوى كل يوم من إنتاج إن لم يكن كل لحظة. فماذا فعلت وزارة الشئون فى هذين الشهرين؟

لقد كتب فيها الكاتبون كثيرا، وملئت أنهار الصحف السيارة بما تريد أن تقوم به من أعمال.

هى تريد إلغاء البغاء، وتنظيم الإحسان، ومحاربة الخمر والقمار، وإصلاح الأسرة، وحل قضية المرأة، ورفع مستوى الأخلاق، وتطهير الإذاعة، وإرشاد الصحافة، ونشر الثقافة العامة، وتهذيب السينما والتمثيل إلخ.

فماذا فعلت من ذلك كله فى مدى شهرين؟ هذا سؤال.

وسؤال أهم منه بكثير: على أى أساس تريد أن تزاول هذه المهمة؟ وسؤال ثالث لا يقل عن سابقة أهمية: من الذين سيقومون بالإشراف على إنفاذ هذا الإصلاح؟

إن الروح والقدوة هما الأساس فى الإصلاح الاجتماعى، ونحن نريد أن تكون الروح المهيمنة على الإصلاح إسلامية قوية صريحة جريئة، ونريد أن يكون القائمون بالإنفاذ مشبعين إلى أقصى حد بهذه الروح، وتعاليم الإسلام كفيلة بكل ما يريد المصلحون الصادقون من إصلاح، ورجال هذه التعاليم كثير لو أرادت الوزارة أن تنتفع بهم، ويسرنا أن نسجل لوزارة الشئون كل يوم حسنة أو حسنات متى كانت من العاملين. ونسأل الله لها التوفيق.

المصدر : مجلة النذير، العدد (35)، السنة الثانية، 10 رمضان سنة 1358ه / 24 أكتوبر 1939م، ص(3-5).