بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)﴾ (الدخان).. ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)﴾ (القدر).. ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ (53)﴾ (الشورى).

وهكذا شاءَ ربُّ السماء أن يتفضَّل على عباده في الأرض وأنزل كتابه الكريم على قلب نبيه العظيم في موكبٍ من الملائكة المقرَّبين، يقدُمهم الروح الأمين في ليلةٍ مباركةٍ سلام هي حتى مطلع الفجر ليكون لهم النور والضياء والعافية والشفاء، والغنى والثراء، والرحمة والذكر، ومراد التأمل والفكر ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس).

وكانت مهمة هذا القرآن في الوجود أن يهدي للتي هي أقوم وأن يرشد إلى سبل السلام ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ (إبراهيم: من الآية 1- 2).

وما أجمع الرسالة وأشملها لأنها للناس عامة وليست لأمة دون أمة، وما أعظمها وأكرمها لأنها سبيل إخراجهم من الظلمات إلى النور، ظلمات الكفر والجهل والحقد إلى نور الإيمان والمعرفة والحب وهي دعائم السعادة في المجتمع.

وهكذا تبين هذه الكلمات على قصرها غاية رسالة القرآن وحدودها، ولا عجب؛ فهي جوامع الكلم وروائع الحكم، لم تتجلَّ في كتاب، ولم تتقيَّد في خطاب كما تجلَّت في القرآن المبين، لأنه خطاب رب العالمين.

وإنما نزل القرآن في رمضان لأنه روحٌ من الله يجب أن تجهز لها الأرواح بهجران المادة والصوم عن الشهوات جملةً حتى يصادف وعاءً خاليًا فيتمكَّن، وتقع القلوب والأفئدة مبصرةً على ضوءٍ واضحٍ ساطعٍ من سناه فترقُّ وتتمعَّن، فكانت المناسبة بين القرآن ورمضان هذا الصوم الحسي الذي تتطهر به أرواح المؤمنين، فتسمو إلى عليين، أو أنه لهذا المعنى فُرض الصيام في رمضان تكريمًا لأيامه ولياليه التي أنزل فيها القرآن.. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: من الآية 185)، ولقد جاء في الحديث: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة".

وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلةٍ في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القرآن فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة.

وروى الحارث الأعور قال: مررت بالمسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث؛ فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث؟! قال: أوَقَد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إني قد سمعتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنها ستكون فتنة"، فقلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَن تركه من جبارٍ قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ (الجن) مَن قال به صدق، ومَن عمل به أُجر، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا إليه هُدِي إلى صراطٍ مستقيم" (سنن الترمذي كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في فضل القرآن 5/172 رقم 2906، قال أبو عيسى: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحديث مقال"، ومصنف ابن أبي شيبة كتاب فضائل القرآن باب في التمسك بالقرآن 6/125 رقم 30007، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه عمرو بن واقد وهو متروك" مجمع الزوائد 7/165).

ألا وإنها الفتنة مخيَّمة بالناس في ظلمات المبادئ المادية الفاسدة والآراء الظالمة الجاحدة، ولا مخرجَ منها إلا كتاب الله، وأنتم- أيها المسلمون- حملته، وقلوبكم أوعيته؛ فهل آن لكم أن تتدبَّروه فتفقهوه فتقيموه فتَسعدُوا به وتُسعِدُوا معكم البشريةَ المعذبةَ، وترشدوا باتباعه وتُرشِدُوا القافلةَ الضالة، وتلك رسالتكم اليوم كما كانت رسالة أسلافكم بالأمس.. فهل أنتم لها مُقدِّرون؟ وفي سبيلها مجاهدون؟ نرجو أن يكون!
---------
* جريدة الإخوان المسلمين اليومية، ص (3) العدد (74)، السنة الأولى، 1 رمضان 1365ﻫ/ 29 يوليو 1946م.